الثورات أخرست إيران

ليس جديدا تحجّم نفوذ القوى العنيدة أو التي تسميها السياسة الأميركية بالمارقة، حيث أخذ مدها يتضاءل منذ أكثر من عقدين. وعند رصد محطات المحاور التي تتشبع بالممانعة يتجلى بوضوح أنها لم تفلح في إعاقة الأجندات الغربية خصوصا الأميركية على مستوى العالم من جهة، كما لم تتمكن من إرضاء الجماهير التي وثقت فيها على وقع الشعارات وتجييش المشاعر من جهة أخرى. لقد بدا جليا أن الأنظمة الدكتاتورية المتدثرة بالثورة خسرت الداخل والخارج. ففي الوقت الذي يصنفها العالم شرا مستطيرا، تواجه غضبا عارما من الشارع لأنها أسست لما بات يسمى بعهد العوائل الجمهورية، وركزت السلطة والثروة في يد الحزب الواحد أو رجال الدين. لقد كان قدر الشعوب في سوريا وكوريا الشمالية والسودان والعراق وليبيا والعديد من البلدان أن تتحمل ضنك العيش والعزلة عن العالم لعدة عقود، في سبيل تحدي الغطرسة الغربية ومقاومة الشيطان الأكبر، وغير ذلك من المُثل والمبادئ التي كشفت الأيام أنها لم تؤد سوى لمزيد من الإفقار والتهميش ومصادرة حريات وحقوق الناس. في كل مرة استطاعت أنظمة القمع العائلية والدينية الالتفاف على مطالب ملايين البشر عبر توريطهم في معركة خاسرة ضد القوى العالمية، ما أدى إلى تردي الخدمات وتكريس الظلم وفجور الطبقية حيث تمدد الأغنياء في فضاء المال وازداد الفقراء التصاقا بالقاع. فعلا، شكل دخول القوات الأميركية بغداد في وضح النهار وتمكنها من خلع الرئيس صدام حسين تحولا في سياسيات الأنظمة «المقاومة»، فبادر العقيد الليبي معمر القذافي إلى كشف حساباته النووية للأميركيين، وتعاطت بعض الحكومات العنيفة بإيجابية مع الوضع الدولي، في حين عمل البعض الآخر على التصالح مع الداخل. غير أن طهران ودمشق تمكنتا من البقاء على النهج الأول وتابعتا التوغل في الحركات الإسلامية في لبنان وفلسطين من أجل إطالة أمد النظامين وتسويقهما في بورصة النضال. ورغم أنه لا توجد قواسم مشتركة بين الحكم في سوريا وإيران، حيث يقوم الأول على إلغاء الدين من الحياة، في حين يستمد الثاني شرعيته من الحسينيات والمعمّمين، فإنهما تمكنا من خلق انسجام حميمي بين أهدافهما في المنطقة وقدما مشروعا بدا مغريا حتى بالنسبة لبعض الدول. لكن الربيع العربي غيّر مجرى الأمور ولم يتمكن من إيقاف الدعاية للخط السياسي لطهران ودمشق فحسب، بل اقتلع الوجود البعثي الخميني من الشرق الأوسط، وهذا ما يفسر بحث الحركات الإسلامية والقومية عن ظهير جديد واستعدادها للحوار غير المشروط مع واشنطن. وفقاّ للقراءة السطحية، تبدو طهران أقل ورطة من العواصم العربية التي تشهد زحفا من الشارع نحو القصور، بينما الحقيقة أن جمهورية الدين تواجه متاعب تجعل استمرارها أقرب إلى المستحيل. إن الشلل الذي أصاب البعث في دمشق بفعل الزخم الثوري الذي تداعت له كل القرى والمحافظات سحب نفوذ طهران في المنطقة حيث كانت تعبر للشأن العربي من بوابة الأسد. ولأن الأخير قاب قوسين أو أدنى من السقوط بدأت إيران تعيش في عزلة مريرة، فبدل التمدد في المشرق والمغرب العربيين سيتعين على ساسة الجمهورية الإسلامية الانكفاء على الذات، وفي أحسن الأحوال العمل على منع وصول الطبعة العربية من الثورة إلى الشباب هناك. ولعل الحيرة من تداعيات الوضع العربي والسوري بالذات هي ما يفسر الخرس الذي أصاب الإيرانيين مؤخرا فلم نعد نسمع عبارات التحدي التي كانت تدوي من طهران. وبما أن الفعل التحرري الذي يبطش بالمنطقة بعثر كل الحسابات السياسية والمذهبية، فإن عناء إيران سيتجاوز تعطّل سكة التواصل مع لبنان وفلسطين والبحرين إلى مآزق أخرى، حيث يشهد العراق نفورا من الطائفية العفنة، ويعمل الأكراد على خلق وضع قومي جديد. وإذا ما أضافنا لكل هذا أن الأتراك تمكنوا من بناء ما يسميه الكثيرون نموذجا لدمقرطة الإسلام يكون من المشروع التنبؤ بانتهاء صلاحية أئمة نجاد.