


عدد المقالات 269
استغرق جليسي وهو يحدثني عن الإنجازات الأكاديمية للجامعات الليبية في العقود الماضية، تحدث بفخر كبير عن دوره في تطوير الجامعة التي عمل بها وعن آلاف الطلاب الذين تخرجوا منها، خاصة طلاب المنح الذين وفدوا من مختلف دول العالم، انتشى وهو يحكي لي عن تجربته في بناء مكتبة جامعة نواكشوط كموفد من جامعته وكيف أشرف شخصياً على تدريب العالمين فيها أكاديميا، تحدث مطولاً عن الأبحاث التي صدرت عن الجامعة في مختلف المجالات كالإعلام والهندسة والعلوم الاجتماعية، افتخر بسياسة التعريب التي وصلت إلى تعريب بعض كتب الطب في جامعته، بعد أن أنهى حديثه سألته، ماذا حل بكل ذلك الآن، تغيرت ملامح وجهه، استبدلت نظرة حزن نظرات الفخر التي بدت على وجهه قبل قليل «كله ذهب، تخيل أحرقوا المكتبة وأجزاء من الجامعة». ليس مهماً من الجاني أو من المتسبب في الفوضى الأمنية، المهم أن الضحية كانت العلم، المعرفة، ورسالة التعليم الخالدة. جليسي أكاديمي ليبي يدرس حالياً في بريطانيا، كلما رآني يدعوني لغداء أو عشاء أو كوب قهوة، ضيافته ونخوته العربية تنسيني للحظات أنني في غربة، نهاية كل جلسة معه هي ذاتها، إلحاح علي أن أتصل به لأي حاجة أحتاجها وعناق كمعانقة الأب لابنه، لكن كل جلسة كذلك تكون مليئة بآهات الألم لما يحدث في بلاده، خاصة ما جرى للجامعات والمؤسسات التعليمية هناك، فكما هو الحال مع كل غزو أو ثورة أو انفلات أمني التعليم هو أبرز الضحايا الجانبيين، لا يستفيد أحد بأذيته ويخسر الجميع بسقوطه ومع ذلك لا يتورع أحد عن استهدافه. عندما دخل المغول بغداد قطعوا الرقاب ومزقوا الكتب، حتى قيل إن الأنهار اكتست بلون الحبر لكثرة ما ألقي فيها من صفحات لم تعوض حتى اليوم، المطلع على المخطوطات سيخبرك أننا اليوم نجد ذكراً لمئات بل آلاف الكتب التي اندثرت نتيجة هذا العدوان على الإنسان والمعرفة، وربما ضاعت في غياهب أنهار الدم في بغداد معارف لم تستكشف مرة ثانية حتى يومنا هذا. ومرة ثانية عندما سقطت الأندلس حرقت المكتبات وقتل العلماء ولم يتبق إلا ما أنقذه بعض الفارين بدينهم ودمائهم من الأندلس أو بعض الندرة من القساوسة المتنورين خفية، واليوم نجد الكثير منه على شكل رسائل مترجمة إلى اللغات الأوروبية. وفي عصرنا هذا لم يتوقف الاعتداء على العلم، فجامعة الإيمان يحرقها بمكتبتها الزاخرة الحوثيون، وعلماء بغداد تقتنصهم ميليشيات مدعومة من نظام طائفي متطرف، وهكذا يضيع العلم على أياد من يعتبر الجهل فضيلة، والعلم جريمة. في هذه الأحوال هناك مجاهدون أخفياء، يخاطرون بحياتهم للحفاظ على قدسية العلم، فيبذلون الغالي والنفيس حتى لا يتوقف التعليم في أتون الحرب، وكم شهيدٍ ارتقى منهم فقط لأنه أصر على أن يستمر في التعليم في ظروف وفرت له العذر للبقاء في بيته، وسيخبرك من حضر مثل هذه الأحوال عمن تسللوا إلى مباني الجامعات في وسط القصف المتبادل ليستخرج وثائق معه كانت لتضيع لولا تضحيته وحرصه على العلم، ولكن مع الأسف في كثير من الأحيان هذه الجهود لا تساوي حجم المأساة، فأجيال تنشأ بدون تعليم أساسي وإنجازات علمية استغرقت عقوداً تذهب بغير رجعة. المطامع السياسية تجيء وتذهب، المتحاربون على السلطة ينجحون ويفشلون، الجنود يموتون ويدفنون، لكن العلم باق، فكثير من العلوم التي بين أيدينا اليوم قتل أصحابها بسبب علمهم، وحرقت كتبهم على أيدي من جرمها لسبب أو آخر، لكن شيئا منها يبقى في الذاكرة الإنسانية محفزا لفهم جديد واستكشاف آخر، فالعلم لا يمكن قتله، يمكن قمعه، إخفاؤه أو حتى حجبه، ولكن يبقى شيء منه يحوم حولنا يبحث عن عقل جديد يغزوه ليتفجر في شكله المعرفي ويغير حياة البشرية مع كل اكتشاف جديد. في الحروب تنطفئ لغة العقل لصالح الهمجية والوحشية، فالهدف أن تقتل وتقتل وتقتل حتى لا يقوى الطرف الذي أمامك على القتال، لذلك تجد أن الكثير من العلماء الذين شاركوا في اختراع الأسلحة المدمرة حاولوا أن يطهروا ذكراهم منها، فنوبل أنشأ جائزته تكفيراً عن اختراعه للديناميت، وأوبنهايمر مخترع القنبلة الذرية الأميركية استذكر وهو يشاهد أول تجربة ناجحة لقنبلته مقولة هندوسية «لقد أصبحت الموت، مدمر العوالم»، وأمضى حياته محاولاً نشر مبادئ السلام، مبرراً سلاحه على أنه ضامن للسلم العالمي، وهكذا، كلهم عرفوا أن معرفتهم ستقتل ذاتها لذلك حاولوا ولكن لا شك أنهم ماتوا وفي قلوبهم حسرة. مهما قلنا أو فعلنا سيبقى العلم هدفاً غير معلن لكل حروب العالم ونزاعاته، وليس أمام أهل العلم وصناع المعرفة إلا الاستمرار في إنتاجهم في كل الظروف ورغماً عن كل من لا يريد ذلك، فالعلم لا يموت على يد قاتل أو جيش، العلم يموت فقط عندما يتوقف الإنسان عن السير في رحلة المعرفة التي لا تنتهي. • majedalansari@hotmail.com @majedalansari
منذ عام 2006 بدأت في مجال التحليل السياسي، من خلال صفحات الجرائد المحلية المختلفة، ومنذ ذلك الحين التزمت بمقال أسبوعي يركز غالباً على التعليق على الأحداث الراهنة، أو مناقشة موضوع سياسي عام، مرت هذه التجربة...
بنجاح أكبر من الذي توقعته استطلاعات الرأي، عبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، ليقطع الطريق على من أراد أن يشكك في استمرار شعبيته في بلاده. وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة والتلاعب...
مذ عرّفني أحد الأصدقاء على قصيدة تميم البرغوثي عن القدس، دأبت على الاستماع إليها بين الفينة والأخرى، لا شك لجمالها أولاً، ولكن كذلك لأنها تنقلني إلى حالة شعورية مختلفة حول المدينة القديمة، أشعر وكأنني أمشي...
في الإنجليزية، إذا أردت أن تصف أشخاصاً يتقاتلون بطريقة صبيانية، فبإمكانك استخدام مصطلح «أطفال بألعاب»، في إشارة إلى أن أولئك الذين تتحدث عنهم يتصرفون كأطفال يتنازعون ألعاباً لا كأشخاص ناضجين.. العالم اليوم يكثر فيه من...
ستة أشهر كانت كفيلة ببث روح جديدة في الجسد القطري بعثها التحدي الأكبر الذي واجه البلاد في تاريخها، في هذه الأشهر الستة انطلقت قطر نحو المستقبل بخطى ثابتة والتحم الشعبي مع الرسمي لرسم لوحة مشرقة...
آلة السياسة في واشنطن شديدة التعقيد، من حيث التركيب والأنظمة، فنظام التوازن والرقابة الذي يعطي كل سلطة صلاحية رقابية على الأخرى، ويجعل الصلاحيات متوازنة بينها، أورث نظاماً معقداً، ولكنه يعمل بكفاءة عالية، هذا النظام تعرّض...
أثارت كوريا الشمالية الرعب في محيطها الإقليمي والعالم أجمع بتصعيد تجاربها النووية والصاروخية، وحسب الخبراء العسكريين يمكن أن تصبح قريباً «الدولة المارقة»، كما يسميها ترمب، قادرة على تركيب رأس نووي على صاروخ متجه إلى الساحل...
الأنشطة الثقافية للمؤسسات الخيرية هنا في قطر كانت وما زالت أكثر قدرة على جذب الجماهير من مثيلاتها الرسمية، ويعود ذلك لمجموعة من الأسباب، أهمها الطبيعة التطوعية لهذه الأنشطة، وما يحققه ذلك من إبداع ومرونة وحماس،...
حطت طائرة الرئيس الأميركي على أرض فلسطين ليكون أول مؤتمر صحافي له بجوار طائرته مناسبة جديدة يذكر فيها بالتزامه التام بأمن الكيان الصهيوني، بعد أن أمضى الأيام الماضية في التأكيد على رؤيته حيال «الإرهاب الإسلامي»...
الثورة الاقتصادية الصينية التي دفعت بالصين من دولة مقسمة محتلة إلى أحد أقوى اقتصادات العالم استفادت بشكل كبير من المبدأ الذي وضعه باني نهضة الصين الاقتصادية الحديثة شياوبنج وهو رئيس الصين الثاني بعد ماو تسي...
احتفل قطاع كبير من الفرنسيين، ومعهم المعتدلون في أوروبا، والعالم الغربي بخسارة لوبين، وفوز ماكرون خلال الأيام الماضية، متجاوزين تهديداً آخر من اليمين المتطرف الأوروبي، وبذلك تتبدد أحلام اليمين المتطرف في القارة العجوز في أن...
خلال الشهور القليلة الماضية تغيرت الأوضاع في قطبين من أهم الأقطاب السياسية في المنطقة بشكل كامل، خلال الأعوام الماضية بدا أن النظام الإيراني يحكم قبضته على محيطه الداخلي والخارجي، وفي مقابل ذلك بدا أن الإدارة...