نور.. إلى جنة الخلد

رحلت نور إلى جوار ربها، وكثير من القلوب تدعو لها ليل نهار بأن يتقبلها ربها الرحمن الرحيم عنده في عليين، وأن يجعل مثواها جنة الفردوس الأعلى.. لكن من هي نور؟ وهذا سؤال سيتبادر إلى ذهن كل من يقرأ المقال، لكن لا تتوقعوا أن لدي إجابة لأنني أنا كذلك لم أعرف من هي نور، رغم أنها كانت بين ظهرانينا، وكانت على تواصل دائم معي ومع أحد الأصدقاء الناشطين في العمل الخيري، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً. ولم أعرف حقيقة من تكون إلا بعد أن أخبرني صديقي بوفاتها عليها من الله الرحمة والمغفرة. ولكي نعرف من تكون.. أدع لكم ما قاله لي صديقي بعد أن اتصل بي هاتفياً وطلب مني أن أقابله لأمر جلل لا يحتمله منفرداً، ويريد أن يخفف عنه وطأة ما وصله من أخبار. قابلته فوجدته في حالة يُرثَى لها مكسور الخاطر يكاد يتفطر من الحزن رغم قوته وتحمله للصعاب والمشاكل ورضاه بما قسم الله له، وكان على غير عادته التي عهدته عليها فباشرني بالقول: ماتت نور.. فعزيته ظناً مني أنها قريبة له، وسألته لكن من تكون نور؟ فبدأ الحكاية قائلاً لي: هل تذكر حين كنت أنت مشرفاً على صفحة متخصصة في إحدى الصحف المحلية تُعنَى بالحالات الإنسانية والاجتماعية المعدمة والمحرومة التي تحتاج إلى الدعم والمساعدة، فقلت له: نعم. فتابع: ألم تكن هناك سيدة كانت تتواصل معنا بشكل دائم ومستمر تسأل عن الحالات وتقوم بالاستفسار عنها، وبعد ذلك تقوم بالتكفل بها عبر الجهات الخيرية المعتمدة، أو تقوم بسداد تكاليف العلاج أو الرسوم الدراسية مباشرة إلى الجهات المستحقة. فقلت له: نعم، وتلك سيدة محسنة لم تكن تكشف عن هويتها على الإطلاق، وفعلاً كانت تسمي نفسها نور، ولم يكن يهمنا نحن حين كنا نتلقى اتصالات المحسنين الذين يريدون مد يد العون للمحتاجين والمعدمين أن نعرف من هم حتى يعرفوا هم بأنفسهم. فقال لي: إن تلك السيدة الفاضلة هي نور التي أقصدها قد انتقلت إلى رحمة الله، وقد عرفت قبل فترة قصيرة فقط حقيقتها، وأنها كانت تستخدم اسماً غير اسمها حتى لا يعرفها أحد، رغم أنها في المجتمع يشار إليها بالبنان، وهي لا تخفى على أحد، ومع ذلك كانت تتواصل مع الناس البسطاء، وتحب أن تشعرهم بصدق نية ودون تكلف أو تصنع أنها واحدة منهم، وتشعر بالسعادة حين تجد أثر ما تقوم به من خير على من حولها، ورغم ما تتمتع به من خير إلا أن تواضعها وطيبتها وحسن طبعها ودماثة أخلاقها تشعرك وكأنك تتعامل مع روح طاهرة ملائكية، لا تملك إلا أن تدعو الله أن يمد في عمرها، وأن يفتح لها أبواب الخير، ولن يدور في خلدك ولن تتوقع أن تكون نور من البيت الذي عرفت أنها منه. وهنا سألته: طالما أنك عرفت حقيقة المحسنة نور.. إذاً من تكون؟ لم يجبني رغم إلحاحي عليه، مبرراً أن تلك رغبتها ولن يكشفها على الإطلاق. وختم حديثه، قائلاً: رحلت نور، وحين عرف من أحسنت إليهم وكانت معهم الأم والأخت والقلب الحاني والمداوي لجراحهم وآهاتهم أنها تركتهم صعقوا لأنهم فقدوا عزيزاً عليهم، وزادهم ألماً أنهم لم يعرفوا أن نور التي عرفوها بذلك الاسم الطاهر كانت تخفي عنهم حقيقة من تكون حتى تشعرهم بأنها قريبة منهم، وأنها واحدة منهم، وأوجعهم كذلك أنهم لم يتمكنوا من شكرها ولقائها وأن يردوا لها -ولو قليلاً- من جميلها قبل موتها رحمها الله، لكنهم جميعاً مع ذلك يذكرونها في خلواتهم وصلواتهم، ويدعون لها بالرحمة والمغفرة، وأن ينير الله قبرها كما أنارت جوانب كثيرة في حياتهم، وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة. هذه هي نور تركت الدنيا بكل زخرفها وجمالها وسلطانها، لكنها تركت مع ذلك خلفها أناساً أحبوها لذاتها، وسعدوا بمعرفتها، وقدروها لذاتها الطيبة الطاهرة النقية، وسيبقون يدعون لها ليل نهار، وهذه هي والله الصالحات الباقيات.