اختلاف المطالع

الحمد لله حمدا يليق بجلاله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، والرضا على صحبه ومن سار على منواله. وبعد: فإن من الموضوعات التي يثار حولها النقاش كل رمضان ويسأل عنها كثيرون مسألة اختلاف الأمة في مطلع الشهر وما يترتب عليه من اختلاف في الصيام والفطر. والخلاصة: أن أقوال العلماء هنا في الجملة على مذهبين، وقبل ذكرهما ينبغي التنبه إلى أن العلماء متفقون على أن دخول الشهر لا يثبت شرعاً إلا بالرؤية المحققة البصرية، ولا اعتبار بالحساب الفلكي حتى وإن وافق الرؤية، لكونه ظناً لا يفيد العلم. وعليه فالعلماء في كلامهم على ثبوت رؤية الهلال أجابوا عن سؤال متعلق به؛ هل يلزم ثبوت رؤيته كل البلاد الإسلامية أم يختص ببلد دون بلد؟ فمذهب الجمهور أن ثبوت رؤية الهلال في بلد يلزم كل من وصلهم خبر ثبوته في البقاع الإسلامية، رغم اختلافهم في طرق ثبوت رؤية الهلال الذي يمكن إلزام الأمة بما يترتب عليه، ومن أدلتهم على مذهبهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) رواه البخاري ومسلم. فقوله: صوموا خطاب عام شامل للأمة جميعاً، فإذا ثبتت الرؤية لزم كل من وصله الخبر موثوقا منه، ولا عبرة باختلاف مطالع القمر، وهذا المذهب يتصور العمل به اليوم من خلال إشاعة الخبر عبر وسائل التواصل، ولكنه كان متعذرا في السابق لضعف وسائل التواصل والمواصلات. والمذهب الثاني مذهب الشافعية وبعض علماء عصرنا إلى أن ثبوت رؤية الهلال يلزم بلد الرؤية وما جاورها من البلدان الداخلة في مسافة القصر، أو ما يقارب 133 كيلو مترا من بلد الرؤية، وهذه المسافة هي المعبر عنها في القديم بأربعة وعشرين فرسخاً، لأن اختلاف المطالع لا يكون في أقل من هذه المسافة، فاعتبروا اختلاف المطالع، ودليلهم من السنة: ما رواه مسلم وغيره من أصحاب السنن عن كريب « أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان، وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال، فقال: ‌متى ‌رأيتم ‌الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورأه الناس، وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما راعى اختلاف المطالع، ولم يكتف بما أخبر به كريب من اعتماد رؤية معاوية وهو الخليفة رضي الله عنهم أجمعين. واستدلوا بقياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس الذي يترتب عليه اختلاف أوقات الصلاة الواحدة في الأقطار الإسلامية. وعليه فلكل قول أدلته والعمل بما تطمئن إليه النفس، والذي عليه العمل اليوم ويترجح هو المذهب الثاني. وعلى المسلم أن يوافق الجماعة التي يعيش فيها، لاسيما وأن الحكام اليوم قد عينوا لجاناً من العلماء بالفقه والفلك ليراقبوا الهلال، ويأخذ الحكام بشهادتهم وإفادتهم، ويعملوا بها والقاعدة المقررة أن حكم الحاكم يقطع النزاع. فإذا أعلنت دولة ثبوت رؤية الهلال لزم كل من فيها من المسلمين، دون التفات لاحتمال وقوع الخطأ، ودون لجوء للحسابات الفلكية، وفتنة الناس في دينهم، والله أعلم.