تسعى قطر، الدولة الغنية بالهيدروكربونات، إلى تنويع استثماراتها بعيدًا عن النفط والغاز ضمن إطار استراتيجية قطر 2030. ومن بين أهم القطاعات التي توليها قطر اهتمامًا خاصًا هو القطاع الزراعي، وذلك لأنه لم يكن من القطاعات المنتجة في الاقتصاد القطري بشكل كبير فيما قبل، وذلك نظرًا لكونها واحدة من أكثر الدول تعرضًا لضغوط المياه عالميًا. ففي عام 2018، تم تخصيص 1.2% فقط من أراضي قطر للزراعة الصالحة، وأقل من 6% للأنشطة الزراعية بشكل عام. ومع ذلك، شهدت قدرة قطر على إنتاج الغذاء تحولًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، حيث ظهر عزم الدولة على تطوير صناعاتها الغذائية المحلية، بما يتماشى مع استراتيجية الأمن الغذائي ورؤية قطر 2030.
نجاح قطر في التحول
فحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) بين عامي 2014 و2019، سجلت قطر أسرع معدل نمو في إنتاج الغذاء المحلي ضمن دول مجلس التعاون الخليجي، حيث بلغ معدل النمو السنوي المركب (CAGR) 15.2%، مقارنة بمعدل إقليمي بلغ 4.3%. وخلال الفترة بين عامي 2017 و2019، شهد الإنتاج الغذائي المحلي زيادة هائلة بنسبة 400%. كما حققت قطر اكتفاءً ذاتيًا بنسبة 82% في منتجات الألبان في عام 2018، بعدما كانت تعتمد على الواردات بنسبة 72% في العام السابق.
واليوم، تقف قطر على أعتاب التحول إلى دولة مصدرة للغذاء في المنطقة، حيث تحتل المرتبة الثانية بين الدول العربية والمرتبة 24 عالميًا في مؤشر الأمن الغذائي العالمي (GFSI). وفي يونيو 2023، أعلنت وزارة البلدية أن المشاريع الزراعية التجارية التي تم إطلاقها ضمن إطار الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي (2018-2023) ستسهم بأكثر من 300 مليون ريال قطري (82.39 مليون دولار أمريكي) في القطاع الزراعي للدولة، وتتوقع دراسة اجراها مركز الاحصائيات الأمريكي statista أن يتجاوز حجم السوق الزراعية في قطر 223 مليون دولار بحلول عام 2029.
أسباب هذا النجاح
أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا النجاح الزراعي هو الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة والقطاع الخاص في مجال الابتكارات البحثية والتطوير باستخدام التقنيات الجديدة، والذي يبرز في استثماراتها عبر شركة حصاد، الذراع الاستثماري الزراعي للدولة، كما ركزت قطر على تعزيز الإنتاج المحلي من خلال شركات مثل بلدنا، التي أحدثت تحولاً كبيرًا في إنتاج الألبان المحلي عبر استيراد آلاف الأبقار الحلوب وتوسيع مزارعها. في عام 2019، أطلقت بلدنا طرحًا عامًا أوليًا بقيمة 1.4 مليار ريال قطري، وتمكنت من تلبية 95% من احتياجات قطر من الحليب، مما قلل اعتماد البلاد على الواردات، حتى وصلت قطر إلى الاكتفاء الذاتي من منتجات الالبان في ٢٠٢٠.
هذه التحولات جاءت نتيجة مباشرة لاعتماد قطر على الأبحاث الزراعية المتقدمة وتطوير تقنيات زراعية مبتكرة مثل التبريد والتخزين الفعال، مما ساهم في تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الاقتصاد المحلي.
بالإضافة إلى ذلك، لعبت الأبحاث المتطورة والتكنولوجيا دورًا محوريًا في تحويل التحديات البيئية إلى فرص استثمارية في قطر. على سبيل المثال، قامت شركة وادي ووتر بتطوير تقنية إنتاج مياه الشرب من الرطوبة الموجودة في الهواء، مما ساعد في تخفيف الضغط على موارد المياه النادرة في قطر. كما تبنت شركة أجريكو نموذج الزراعة الدائرية باستخدام الزراعة المائية والعضوية، مما يتيح الإنتاج الغذائي المستدام على مدار العام. هذه الشركات، بفضل اعتمادها على الأبحاث وتقنيات الري المبتكرة، مكنت قطر والتي تعد دولة فقيرة في الامطار حيث يسجل أقصى متوسط هطول شهري للأمطار 15 ملم فقط ودرجات حرارة في الصيف تتجاوز 40 درجة مئوية، من تحسين كفاءة استهلاك المياه وزيادة الإنتاج، مع الحفاظ على استدامة الموارد الطبيعية، وهو ما يعد جزءًا أساسيًا من استراتيجية قطر 2030.
استثمارات قطر خارجيًا في القطاع الزراعي
لا تكتفي قطر بالاستثمار الداخلي في قطاع الزراعة فحسب بل تقوم باستثمارات خارجية واسعة يعد من أبرزها استثماراتها في الجزائر، حيث يعد مشروع شركة الريان الزراعية التي حصلت في سبتمبر 2024 على امتياز زراعي يغطي مساحة 1811 هكتارًا في منطقة حاسي فحال الجزائرية، من أكبر المشاريع الخارجية لقطر في مجال الاستثمار الزراعي، وسيسمح هذا المشروع لشركة الريان بالاستثمار في المحاصيل الاستراتيجية وتعزيز الإنتاج الزراعي في المنطقة.
إلى جانب الريان، تلعب شركة بلدنا القطرية دورًا رئيسيًا في تعزيز الأمن الغذائي عبر استثماراتها الضخمة في الجزائر، حيث وقعت مذكرة تفاهم لإنشاء مصنع لإنتاج حليب الأطفال ضمن مشروع بقيمة 3.5 مليار دولار. يهدف هذا المشروع إلى تلبية 50% من الطلب الوطني الجزائري على الحليب المجفف وتوفير فرص عمل محلية وتعزيز الإنتاج الزراعي.
وقد أشاد وزير الخارجية الجزائري بهذه الجهود القطرية في الاستثمار الغذائي في مقابلة مع قناة الجزيرة وبثت على منصة أثير القطرية في ديسمبر الماضي قائلًا: الناس يتحدثون عن علاقات الجزائر وإسبانيا وعلاقات الجزائر وفرنسا... لكن الاستثمارات القطرية خارج قطاع المحروقات في الجزائر تعادل أو حتى تفوق استثمارات الدول الأوروبية مجتمعة .
وفي نفس الوقت تلعب شركة حصاد، التي تعتبر الذراع الاستثمارية للقطاع الزراعي في قطر، دور كبير في توسع قطر لإبرام صفقات زراعية في دول مثل إثيوبيا وأوغندا والسودان بهدف تأمين مصادر غذائية متنوعة ومستدامة لدولة قطر، كما تستثمر الشركة في البحث والتطوير لزيادة كفاءة الإنتاج وتقليل استهلاك المياه عبر تقنيات مبتكرة.
ولذلك أشار خبراء في مركز التجارة الدولية الأمريكي إلى أن السوق الزراعي القطري يشهد نموًا كبيرًا وفرصًا كبيرة للشركات الأمريكية، وحث المركز الحكومي الأمريكي الشركات الأمريكية على الاستثمار في قطر في الأنشطة الزراعية لعمق هذا المجال والفرص الكبيرة الموجودة فيه
ومع توقعات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) لوصول الطلب على الغذاء في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 52.4 مليون طن بحلول عام 2025، ارتفاعاً من 46.8 مليون طن في عام 2020، ونمو السكان الذي يؤدي إلى خفض نصيب الفرد من المياه إلى النصف بحلول عام 2050، فإن الأمن الغذائي على المدى الطويل سيظل ضرورة استراتيجية لدول المنطقة، ومن المتوقع أن تنمو أهمية استثمار قطر في صناعة التكنولوجيا الزراعية الحيوية.