في ذروة السباق الأوروبي لتجنب انقطاع الطاقة في فصل الشتاء البارد والركود العميق، أدرك صناع السياسات في القارة العجوز أن مواجهة تلك المخاطر تتطلب العودة إلى مصادر الوقود (الأكثر قذارة) من وجهة نظر مناهضي الوقود الأحفوري.
روسيا.. أحد أطراف الصراع في القارة الأوروبية متهمة من قبل أعضاء التكتل بتحويل الغاز إلى سلعة سياسية وسلاح للضغط، واستغلت فرصة شح المعروض في خفض الامدادات للضغط على القارة العجوز بالموافقة على منح الترخيص لخط الانبوب (نورد ستريم2) الذي يتجاوز اوكرانيا ويربط روسيا والمانيا مباشرة عبر البحر.
واقع الأمر ان الأزمة في شرق القارة الأوروبية والتي وضعت إمدادات الطاقة العالمية وفي أوروبا بشكل خاص في حافة الخطر، حفزت أيضًا القادة الأوروبيين على تسريع التحول طويل الأجل إلى مصادر الطاقة المتجددة.
وفي الوقت الذي يحسب فيه الأوروبيون الأيام والأسابيع منذ بداية الغزو الروسي في نهاية فبراير 2022، يمر الوقت بطيئاً وثقيلاً في انتظار الشتاء، تحمل في طياتها العديد من المخاطر لقطاع الطاقة الأوروبي. أكثر من 5 أشهر (24 أسبوعاً مضت منذ بداية الغزو الروسي)، عادت محطات الطاقة التي تعمل بالفحم المتوقفة إلى الحياة في أوروبا حيث تحاول المرافق إبقاء الأضواء مضاءة بعد أن أوقفت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي. وحتى من قبل أن تقوم روسيا بغزو أوكرانيا تعرضت المنطقة لسلسلة من اضطرابات الإمداد التي كشفت عن نقاط ضعف نظام الطاقة الذي أصبح أكثر اعتمادًا على طاقة الرياح والطاقة الشمسية المتقطعة في السنوات الأخيرة.
من السهل جداً أن يقول أحدهم أن أزمة الغاز في القارة الأوروبية هي بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا! بافتراض المهددات المتعلقة بنقص امدادات الغاز الروسي نحو أوروبا. وذلك لأن أوروبا تعتمد على الغاز الطبيعي في تلبية 20% من احتياجات توليد الطاقة، تستوردها معظمها من روسيا.
والحقيقية هي أن أصل الازمة يتجاوز الصراع في شرق القارة الأوروبية الذي بدأ قبل 5 أشهر فقط، صحيح أن الأزمة في شرق القارة العجوز هي عامل رئيسي وهي التي كشفت لصناع القرار الحقيقية التي تراكمت منذ فترة طويلة.
لوسيل رصدت 3 عوامل ساهمت في تسريع ازمة الغاز الأوروبية وهي التي أوصلت امدادات الطاقة لما هي عليه الآن، حتى أن القارة العجوز بدأت منكشفة وضعيفة حتى من قبل الغزو الروسي عبر سلسلة من الأحداث غير المتوقعة التي لم يضعها صناع القرار في الحسبان.
ولعل أولى هذه العوامل هو بينها موجة البرد غير العادية والشتاء الطويل في 2020-2021 جعل القارة تسحب كميات إضافية من مخزونات الغاز. ويتمثل العامل الثاني في سرعة تعافي الاقتصاد العالمي بعد الجائحة إلى زيادة الطلب على الطاقة، خاصة بعد انتشار حملات التطعيم في الاقتصادات الكبرى التي دبت فيها الحياة من جديد بعد توقف لمعظم الأنشطة الاقتصادية.
العامل الأخير هو تقلبات الطقس والطبيعية حيث رأينا أنماط الطقس التي تسببت في انخفاض سرعة الرياح بشكل غير عادي مما أدى إلى خفض إنتاج توربينات الرياح، كل ذلك جاء في وقت تراجعت مستويات الغاز الطبيعي، واليوم نشهد أوروبا تواجه أزمة جفاف حقيقية.
وبالإضافة للشتاء البارد المقبل، تشير توقعات درجات الحرارة المتاحة في نظام التنبؤ العالمي (GFS) لمستويات عالية وحرارة أعلى من المعتاد في الصيف.
نتيجة لهذه العوامل وغيرها تضاعفت أسعار الكهرباء أكثر من 3 أضعاف في النصف الثاني من 2021، ثم في فبراير 2022، وأدت الحملة العسكرية الروسية إلى فرض عقوبات على موسكو، ورد بوتين بخفض إمدادات الغاز إلى جيرانه، بدأ ذلك من خلال تقييد التدفقات نحو أوروبا في ابريل الماضي وبحلول نهاية يوليو الماضي توقفت الامدادات عبر خط (نورد ستريم1) ومن ثم خفضها إلى مستويات 20% والآن هناك احتمال لانهيار كامل لتدفق الإمدادات الروسية.
تعتبر روسيا هي واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم ولا تزال أوروبا أكبر زبون لها. مع إغلاق محطات الفحم والمحطات النووية في القارة الأوربية في السنوات الأخيرة، أصبحت ألمانيا وبعض الدول الأخرى أكثر اعتمادا على خطوط الأنابيب العملاقة التي تحمل الغاز من سيبيريا.
ولسنوات عديدة، تحدث مسؤولو الاتحاد الأوروبي عن الحاجة إلى أن يصبحوا أقل اعتمادًا على الإمدادات الروسية، ولكن نظرًا لأن كلا الجانبين استفاد، وغالبًا ما كان الغاز الذي يتم توصيله عبر خط الأنابيب أرخص (وأنظف) من مصادر الطاقة الأخرى، فقد تم اتخاذ القليل من الإجراءات.
واعتمد الاتحاد الأوروبي على الغاز لتوليد ربع طاقته، حيث شكلت روسيا أكثر من ثلث هذا العرض في عام 2021، وارتفاعًا من 26٪ في عام 2001. عندما اندلع الصراع في أوكرانيا، أصبح من غير المقبول أن تستمر أوروبا في الإنفاق بنفس القدر من الانفاق وهو مليار دولار في اليوم على الفحم والغاز والنفط المستورد من روسيا، لأن هذه الواردات تمول الحرب الروسية في أوكرانيا كما يرى التكتل الأوروبي.
خلال الفترة الماضية ارتفع استخدام الفحم الصلب و(الليغنت الفحم الحجري ) لتوليد الطاقة في الاتحاد الأوروبي بنسبة 15% في النصف الأول من 2022 مقارنة بالعام الذي سبقه وذلك بإعادة إحياء المصانع التي تم إيقاف تشغيلها.
ايضاً دفع الوضع الراهن الاتحاد الاوروبي لاستيراد المزيد من الغاز الطبيعي المسال عن طريق الناقلات (التي تكلف اربعة أضعاف تكلفة خط الأنابيب الروسي)، ولكن اوروبا كانت مقيدة بجاهزية البنية التحتية والإمدادات العالمية المحدودة.
في الوقت الذي تستمر فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها في فرض حظر على الطاقة الروسية، سارع صانعو السياسة في الاتحاد الاوروبي بالبحث عن إمدادات بديلة، كما قاموا بخفض متدرج بدأ بفرض حظر على الفحم الروسي، ومن ثم تصارعوا لأسابيع طويلة لمحاولة تطوير خطة للتخلص التدريجي من النفط الروسي في 2022 وخفض واردات الغاز بمقدار الثلثين.
واقع الأمر هذه المهمة تبدو شبه مستحيلة خاصة بالنسبة الجزء الشرقي من القارة الأوروبية لأنهم ببساطة اسيرون للمواد الأولية التي يستقبلونها عبر خطوط الأنابيب من روسيا.
واستمر هذا الصراع حتى يوليو الماضي حيث توصل دول الاتحاد الاوروبي لمستوى اتفاق لخفض استخدامهم طوعيا لاستهلاك من الغاز بنسبة 15% بهدف الحفاظ على إمدادات الطاقة من قبل المستهلكين في القطاعات المختلفة.
تمثل صادرات روسيا من الغاز الطبيعي نحو القارة الاوروبية نحو 40% من حاجة أوروبا بحوالي 155 مليار متر مكعب، يتم نقله عبر عدد من خطوط الانابيب من بينها (يامال) و(نورد ستريم 1).
ويسعى الاتحاد الاوروبي لخفض اعتماده على الغاز الروسي بحلول 2030، وقال بأنه خفض الواردات من الغاز الروسي بمقدار الثلثين هذا العام.
حالياً بلغت مستويات التخزين في دول الاتحاد الاوروبي بحوالي 73.93% وفي حال استمرار تدفق الغاز الروسي يمكن للاتحاد أن يصل للمستهدف من مستويات التخزين لتجاوز الشتاء المقبل.
واذا نظرنا لأكبر الاقتصادات في الاتحاد الاوروبي نجد أن المانيا على سبيل المثال تستورد نصف احتياجاتها من الغاز من روسيا، بينما تمثل الصادرات الروسية لفرنسا حوالي 35%، بينما تعتمد دولة مثل ايطاليا علي الغاز الروسي بنسبة 46%.
وتستورد بلجيكا حوالي 77% روسيا وفنلندا 94% وبولندا 40%، و11% هولندا، بالمقابل نجد دول مثل مقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك ومولدوفا تعتمد بنسبة 100% على الغاز الروسي.
أما بالنسبة للمملكة المتحدة فوضعها مختلف وليست لديها انكشاف نحو الغاز الروسي لذلك هي أكثر الدول تشدداً فيما يتعلق بالعقوبات تجاه روسيا، فبريطانيا تستهلك نصف احتياجاتها من الانتاج المحلي للغاز وتستورد بقية احتياجاتها بشكل خاص من كل من قطر والنرويج.
وبالمقابل لا تعتبر اسبانيا من كبار عملاء روسيا فهي تعتمد على الغاز المسال عبر مرافق الاستقبال لديها من كل من امريكا والجزائر وقطر.
في الوقت الراهن قد تبدو الخيارات ضيقة بالنسبة للاتحاد الاوروبي، في ظل شح المعروض العالمي وزيادة الطلب على الغاز المسال وتوجه العديد من الاقتصادات نحو الطاقة النظيفة والتركيز على الغاز باعتباره بوابه رئيسية للتحول نحو الطاقة.
ولكن يبقي الغاز المسال هو أبرز الحلول للقارة العجوز التي تستورد حوالي 26% من امداداتها من الغاز المسال و74% من الغاز الطبيعي عبر الانابيب.
وتبقى دول مثل الولايات المتحدة وقطر والجزائر ونيجيريا هي أبرز الحلول.
ويرى العديد من الخبراء بأن قطر هي أحد الحلول للقارة الاوروبية على المدي المتوسط وكانت هناك مباحثات أوروبية خلال الفترة الماضية كما طالبت واشنطن الدوحة ضخ المزيد من الغاز نحو أوروبا، ولكن في الوقت الراهن لا تستطيع قطر ضخ المزيد من الغاز نحو اوروبا وذلك لان الغاز القطري مرتبط بعقود طويلة الأجل مع السوق الآسيوي، ولا تبيع سوي 15% من غازها في السوق الفوري وهو الكمية التي يمكن توجيهها نحو اوروبا في الوقت الراهن.
وفي ظل خطط توسعة قطر بزيادة انتاجها من الغاز المسال من 77 مليون طن الى 126 مليون بحلول 2027، وايضاً مشروع (جولدن باس) في الولايات المتحدة وهو أحد استثمارات قطر للطاقة والذي يبدأ التصدير فيه بحلول 2024 بإجمالي 16 مليون طن، يمكن تساعد القارة الاوروبية على المدي المتوسط ببيع جزء من طاقتها المنتجة بعد التوسعة، بالإضافة للغاز المستورد من كل الجزائر ونيجيريا. ولكن كل هذه حلول في المستقبل على المدى المتوسط وليس حلول آنية للأزمة الراهنة في اوروبا.
أدت أزمة الطاقة إلى ارتفاع التكاليف بالنسبة للشركات والمستهلكين، مما يقوض الجهود المبذولة لترويض التضخم ويعرض بعض أكبر اقتصادات أوروبا لخطر الركود.
وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا إلى أعلى مستوى لها في أكثر من أسبوعين حيث تصارع القارة مع موجة حر وتستعد للأزمة إمداد أعمق خلال الشتاء.
وتمضي دول الاتحاد قدماً في خططها للحد من الطلب على الكهرباء، ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال تستعد لانقطاع التيار الكهربائي المنظم للقطاع الصناعي وحتى الأسر خلال فصل الشتاء.
وتخطط المملكة المتحدة لعدم أيام من انقطاع الكهرباء خلال الشتاء، وأحد السيناريوهات المطروحة هو أن تواجه الحكومة عجزاً في الطاقة يبلغ إجماليه حوالي سدس ذروة الطلب، حتى بعد تشغيل محطات الفحم الطارئة.
في ألمانيا تقلل جميع المدن من الإضاءة واستخدام المياه الساخنة في محاولة لتجنب حدوث أزمة. ورفعت ألمانيا الشهر الماضي هدفها لتخزين الغاز الطبيعي إلى 95% بالكامل بحلول الاول من نوفمبر، مقارنة مع 90% في السابق.
وفي برلين تعهدت الحكومة الالمانية بخفض استهلاك الطاقة بحوالي 10% متمثلة في عدد من الاجراءات المشابهة من بينها عدم اضاءة المعالم السياحية ليلاً..
وقال أنجريت جروبل رئيس مجلس منظمي الطاقة الأوروبي الخميس الماضي في مقابلة تلفزيونية: هنا في ألمانيا، غالباً ما تحتاج الجهات التنظيمية إلى تنفيذ الإجراءات وأضاف ربما في أسوأ الأحوال، إذا أوقفت روسيا الغاز، فقد لا يكون هناك ما يكفي من الغاز لتلبية الطلب بأكمله، فعندئذ سيكون هناك تقنين .
وفي اسبانيا فرضت الحكومة قواعد جديدة تتمثل في عدم السماح لأي شركة بتبريد مكاتبها الداخلية بدرجة حرارة أقل من 27 درجة مئوية وعدم رفع درجة التدفئة لمستويات فوق 19 درجة مئوية خلال فصل الشتاء، بالإضافة لوقف اضاءة المعالم الأثرية وحظر اضاءة نوافذ العرض في المتاجر بعد العاشرة مساء وإلزام المتاجر بوضع شاشة تظهر درجة الحرارة في الداخل للمارة.
وحددت كل من ايطاليا واليونان سقف 27 درجة للتكيف بينما فرضت باريس غرامات مالية حوالي 150 يورو على الشركات التي تترك النوافذ والأبواب مفتوحة أثناء تشغيل المكيفات.