بعد مرور عامين على انفصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروبي، ومع انحسار وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) وتداعياته على الاقتصاد البريطاني، بدأت الآثار المترتبة على اتفاقية بريكست تلقي بظلالها وتتجلى بوضوح على مختلف جوانب الحياة اليومية للمواطن البريطاني، ليتجدد الجدل حول جدوى الخروج من التكتل الأوروبي.
اكتسبت حالة الجدل في الأوساط البريطانية زخما مع تزايد استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة لقياس الرأي العام حول جدوى /بريكست/ والدراسات الاقتصادية على حياة المواطنين، حيث أظهر استطلاع رأي أجرته صحيفة /اندبندنت/ البريطانية مؤخرا أن ما يقرب من ثلثي البريطانيين ممن شملهم الاستطلاع يؤيدون إجراء استفتاء جديد على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي /بريكست/، بينما تراجعت معارضة المواطنين لإجراء استفتاء جديد بشكل كبير، حيث رفض 24 بالمئة من المستطلعة آراؤهم إعادة الاستفتاء.
وأوضحت نتائج الاستطلاع أن البريطانيين يعتقدون أن الاقتصاد وتأثير بريطانيا على الساحة العالمية وقدرتها على السيطرة على حدودها تراجعت، الأمر الذي أدى لزيادة نسبة من يريدون إجراء استفتاء جديد، حيث بلغت نسبة من يرون أن /بريكست/ كان قرارا خاطئا بلغت 54 بالمئة، وذلك مقارنة بنحو 46 بالمئة في نفس الفترة من العام الماضي، كما ارتفعت كذلك نسبة من يرون أن /بريكست/ جعلت الوضع الاقتصادي في البلاد أكثر سوءا لتصل إلى 56 بالمئة، قياسا بـ 44 بالمئة العام الماضي.
ويعزز نتائج هذا الاستطلاع ما كشف عنه استطلاع آخر أجري الشهر الماضي بواسطة شركة /يو جوف/ لاستطلاعات الرأي، والذي أظهر تراجعا كبيرا في تأييد البريطانيين للخروج من الإتحاد الأوروبي، إذ رأى نحو 32 بالمئة فقط ممن استطلعت آراؤهم أن التصويت لـ /بريكست/ كان أمرا صائبا، بينما أكد 56 بالمئة أنه كان قرارا خاطئا.
هذه النتائج عززتها كذلك دراسات وتقارير اقتصادية متخصصة أجريت في الفترة الأخيرة حول تأثير /بريكست/ على حياة البريطانيين واقتصادهم، فعلى الصعيد الاقتصادي، اعتبر محللون ومراقبون اقتصاديون أن انحسار أزمة وباء كورونا /كوفيد-19/ مطلع العام الماضي، ساهم في الكشف بشكل أدق عن الصورة الحقيقية للتداعيات الاقتصادية لـ /بريكست/ على المواطنين وأصحاب الأعمال، حيث بدأت الشركات البريطانية تشعر بوطأة نقص الأيدي العاملة القادمة من السوق الأوروبية والتي أحجمت عن القدوم إلى بريطانيا بعد خروجها من التكتل الأوروبي، وهو الأمر الذي أدى لنقص كبير في عدد من القطاعات الحيوية مثل سائقي الشاحنات وما ترتب عليه من أزمة نقل بضائع ووقود مطلع العام الماضي لم تشهدها بريطانيا منذ عقود، ما دفع الحكومة للاستعانة بأكثر من خمسة آلاف سائق من خارج البلاد لتعويض النقص الحاد.
ولم تجد الشركات البريطانية في مواجهة نقص العمالة الأوروبية سوى رفع الأجور لاستقطاب عمالة محلية للوظائف الشاغرة، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار منتجاتها بشكل كبير وساهم في أسوأ موجة تضخم تمر بها البلاد منذ أكثر من أربعة عقود، كما عمدت شركات عاملة في قطاع الفنادق لتقليص عدد الغرف المتاحة لديها في ظل عدم توافر العمالة اللازمة، بينما اضطرت مطاعم ومقاه إلى تخفيض عدد أيام عملها في ظل عدم وجود ما يكفي من الطهاة وموظفي الخدمة، خاصة أن جزءا كبيرا منهم كان يأتي من دول الإتحاد الأوروبي.
ويرى كريس دويل المحلل السياسي، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن نتائج الاستطلاعات الأخيرة ربما لم تكن مفاجئة لكثير من المراقبين، مشيرا إلى أن قضية /بريكست/ ستبقى واحدة من أكثر القضايا التي تثير انقساما في تاريخ السياسة البريطانية، حيث يشعر الكثير من الناس أن الخروج من الإتحاد الأوروبي لم يحقق لهم ما كانوا يأملون، وهناك أناس غيروا رأيهم بشأن تصويتهم لصالح الاتفاقية، وما زال هناك جدل كبير حول كلفة /بريكست/ على الاقتصاد البريطاني في ظل الأزمة الاقتصادية التي نعيشها الآن والحرب الدائرة في أوكرانيا، كما أن الزخم يتزايد بشأن إجراء استفتاء جديد في المستقبل.
أما بيل لو المحلل السياسي، فقال إن قراءة نتائج استطلاعات الرأي أمر صعب إلى حد ما، ولكن يمكن القول إن التصويت لصالح /بريكست/ كان خطأ فادحا، وساهمت أزمة /كوفيد-19/ في التغطية على تبعات هذا الخطأ. إن رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، الذي تزعم الدعوة إلى /بريكست/ قبل استفتاء عام 2016، تمكن بشعبيته أثناء فترة حكمه من الإبقاء على دوران عجلة /بريكست/ بالرغم من كل المؤشرات التي كانت تدل على أن الخروج من الاتحاد الأوروبي لن يكون في صالحنا .
وأضاف المحلل السياسي، في تصريحه لـ /قنا/، الآن مع انتهاء أزمة الوباء، بدأنا نرى بشكل أوضح حقيقة /بريكست/.... وأن الوعود التي ساقها جونسون للناخبين لم تتحقق بعد الانسحاب من التكتل الأوروبي .
ومع انتهاء حرية حركة التجارة بين المملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي بموجب اتفاقية /بريكست/، بدأ سريان اتفاقية التجارة الحرة بين الجانبين والتي جعلت حركة التجارة بينهما تخضع لإجراءات روتينية طويلة ومعقدة دفعت بالعديد من الشركات البريطانية إلى البحث عن استيراد احتياجاتها من أسواق أخرى بتكلفة أعلى مثل الأسواق الأمريكية.
وفي هذا الصدد، قال كريس دويل، في تصريحاته لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، إن الخروج من الإتحاد الأوروبي نشأت بسببه حدود أدت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وسلاسل الإمداد ونقص العمالة، مما صعب من عملية التعافي من أزمة وباء /كوفيد-19/ وفاقم الآثار المترتبة على الحرب في أوكرانيا .
وعلى الجانب الآخر من السجال، يرى مؤيدو /بريكست/ أنه بعد عامين من الانسحاب من الإتحاد الأوروبي، فإن تقليل الاستيراد من الأسواق الأوروبية عاد بالفائدة على المنتجات والمكونات المحلية التي تعززت الحاجة إليها، وإن كان بكلفة أكبر، في ظل تعقيدات الاستيراد من الخارج، مشيرين إلى أن شركات صناعة الأجبان المحلية، على سبيل المثال، بدأت تحقق أرباحا في ظل تزايد الطلب على منتجاتها مع صعوبة الاستيراد من الأسواق الإيطالية والفرنسية.
ومع تجدد الجدل حول قضية /بريكست/ تزايدت الدراسات الاقتصادية التي تقيس أثره على المواطن البريطاني في الأشهر الأخيرة، حيث أشارت دراسة أعدتها كلية لندن للاقتصاد إلى زيادة بنحو 210 جنيهات استرليني سنويا في أسعار الغذاء للأسرة البريطانية نتيجة للرسوم المفروضة بموجب اتفاقية /بريكست/، بينما أظهرت دراسة أخرى، أعدها اقتصاديون من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية لصالح مؤسسة /ريزولوشن فاونديشن/، زيادة بنحو 870 جنيها استرلينيا سنويا في تكاليف المعيشة للأسرة الواحدة بسبب زيادة أسعار الواردات الناجمة عن الاتفاقية.
ووفقا لتقرير صادر عن غرفة التجارة البريطانية الأسبوع الماضي، فإن 77 بالمئة من الشركات التي ينطبق عليها اتفاق التجارة الحرة بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي، ترى أن الاتفاق لم يسهم في زيادة مبيعاتها أو نمو صادراتها إلى دول التكتل، بينما يرى 56 بالمئة من الشركات المسجلة في الغرفة أنها أصبحت تواجه صعوبات بسبب القواعد الجديدة المفروضة على تجارة البضائع، فضلا عن أن 44 بالمئة من الشركات أبلغت عن صعوبات في استصدار تأشيرات عمل لموظفيها، كما أشارت 80 بالمئة من الشركات إلى زيادة في كلفة الاستيراد، وأكدت 53 بالمئة من الشركات انخفاض هامش أرباحها، فضلا عن ما يواجه 70 بالمئة من المصنعين من نقص في البضائع والخدمات.
وأظهر تقييم صادر مؤخرا عن مكتب المسؤولية عن الميزانية، وهو جهة مستقلة تصدر تقييمات حول السياسات المالية والاقتصادية للحكومة، أن اتفاقية /بريكست/ ستتسبب في تراجع بنسبة 15 بالمئة في وتيرة حركة التجارة على المدى البعيد، مقارنة بالموقف في حال لم تخرج بريطانيا من التكتل الأوروبي. وأشار التقييم إلى أن الأدلة الحديثة تشير إلى أن /بريكست/ كان لها أثر سلبي كبير على التجارة البريطانية بسبب خفض حجم التجارة والعلاقات التجارية بين الشركات البريطانية والأوروبية.
كما تشير توقعات مركز الأداء الاقتصادي إلى أن الناتج المحلي سيتراجع بنسبة تتراوح ما بين 6.3 إلى 9.5 بالمئة بسبب تأثير /بريكست/، بينما تؤكد أرقام بنك انجلترا (البنك المركزي) أن معدل الانتاجية بات أقل بنحو 3 بالمئة مقارنة بما كان متوقعا، وذلك جراء انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني منذ إجراء الاستفتاء على /بريكست/ عام 2016.
ويرى منتقدو /بريكست/ أن حكومة المحافظين لم تف بوعدها بجعل الاتفاقية فرصة للخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي وتوقيع اتفاقيات تجارة حرة مع عدد أكبر من الدول خارج التكتل الأوروبي، حيث أشار تقرير لصحيفة /فاينانشال تايمز/ أن الحكومة البريطانية فشلت حتى الآن في تحقيق هدفها الذي أعلنته قبل انتخابات عام 2019 بتوقيع اتفاقيات تجارة حرة تغطي 80 بالمئة من تجارة بريطانيا مع العالم الخارجي، إذ أبرمت اتفاقيات تغطي 60 بالمئة فقط من تجارتها، ولم تتمكن لندن إلا من تجديد 71 اتفاقية تجارة فقط كانت مبرمة من قبل من خلال عضويتها في الإتحاد الأوروبي، وأبرمت أربع اتفاقيات جديدة فقط مع كل من استراليا ونيوزيلاندا واليابان وسنغافورة، بينما لم تسفر المفاوضات الجارية منذ سنوات مع كل من الولايات المتحدة والهند عن أي تقدم باتجاه توقيع اتفاقية تجارة حرة كبرى.
من جهتها، ترى الحكومة البريطانية، في ردها على الانتقادات الموجهة لاتفاقية /بريكست/، أن اتفاق التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي هو أكبر اتفاق تجاري في العالم لا يشتمل على رسوم جمركية أو حصص معينة، ويوفر للأسواق البريطانية وصولا لقطاعات الخدمات الرئيسية ويفتح فرصا جديدة للشركات البريطانية في جميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من أن مسؤولي الحكومة الحالية ينأون بأنفسهم عن الحديث عن تداعيات /بريكست/، إلا أن جيريمي هنت وزير المالية، لا ينكر التأثير السلبي لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي على الاقتصاد، حيث قال في تصريحات سابقة إن هناك كلفة لـ /بريكست/، ولكنه أتاح فرصا أيضا . وألقى هنت باللائمة على أزمة وباء /كورونا/، مؤكدا أنها حرمت البلاد من استغلال بعض الفرص التي منحها انسحاب بريطانيا من التكتل الأوروبي.
وتبقى معضلة بروتوكول أيرلندا الشمالية من أكثر الموضوعات الشائكة الناجمة عن اتفاقية /بريكست/، والتي لا تلوح لها في الأفق نهاية، فقد فشل أربعة رؤساء وزراء حتى الآن في التوصل إلى حل وسط مع الإتحاد الأوروبي بشأن الإقليم.
ويسود التوتر في العلاقات التجارية بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي إثر إعلان المفوضية الأوروبية اتخاذ إجراءات قانونية ضد لندن بعدما أعلنت الأخيرة عن خطة لإدخال تعديلات على بروتوكول أيرلندا الشمالية الذي ينظم حركة التجارة بين الإقليم، التابع للمملكة المتحدة، وجمهورية أيرلندا، العضو في الإتحاد الأوروبي، بحيث يتم تسهيل تدفق البضائع من بريطانيا إلى أيرلندا الشمالية، إذ ترى بريطانيا أن البروتوكول بشكله الحالي يهدد العملية السياسية والاستقرار في الإقليم مع فشل تشكيل حكومة حتى الآن بسبب الخلاف بين الأحزاب السياسية حول البروتوكول.
ولا تختلف الرؤية في اسكتلندا بعد عامين من بريكست عن مثيلتها في أيرلندا الشمالية، حيث قالت الحكومة الاسكتلندية، على لسان انجاس روبرتسون وزير الشؤون الدستورية أن بريكست ليس له مزايا .
وأكد روبرتسون، في تصريح له مؤخرا، أن الضرر الذي سببه بريكست ما زال في ازدياد، فخلال العامين التاليين لنهاية الفترة الانتقالية لـ بريكست ، لم نر أي ميزة للخروج من الإتحاد الأوروبي . وشدد على أن الاقتصاد البريطاني يسير على الطريق الخطأ دون أن يكون هناك بديل ، مضيفا أن حكومة الإقليم ملتزمة بمنح الشعب الاسكتلندي حرية الاختيار حول المستقبل الذي يريدونه، بين مستقبل يتميز باقتصاد أخضر وأكثر ثراء داخل الإتحاد الأوروبي أو اقتصاد يطغى عليه الركود خارج الإتحاد .
وتشكو النخب السياسية في اسكتلندا، التي عارض غالبية ناخبيها بريكست في استفتاء عام 2016، من المشكلات التي نجمت عن الاتفاقية خلال العامين الماضيتين، حيث عانت الشركات الاسكتلندية، كمثيلتها في جميع أنحاء بريطانيا، من ضعف صادراتها لدول الإتحاد الأوروبي، ونقص العمالة الوافدة منها، وهو الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على عمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
ومع تجلي الآثار المترتبة على بريكست على الحياة اليومية للبريطانيين واقتصاد المملكة بشكل عام الذي لا يكاد ينتهي من أزمة حتى يدخل في أزمة جديدة، تتزايد التساؤلات حول إمكانية منح الفرصة للبريطانيين مرة أخرى للإدلاء برأيهم حول الاتفاقية، في وقت يرى فيه المراقبون أنه على الصعيد السياسي، لا تزال هناك مسافة زمنية طويلة حتى يصبح هناك زخم لإجراء استفتاء جديد، لا سيما وأنه لم يمر وقت كاف منذ الاستفتاء الأول حتى يمكن إجراء استفتاء جديد، كما أنه لا أحد من الحزبين الرئيسيين يتحدث عن هذا الموضوع في الوقت الراهن، فحزب المحافظين يعارض إجراء استفتاء جديد ولا يوجد داخل صفوفه أصوات كافية للمطالبة بإجراء استفتاء، وحزب العمال متردد بشأن هذه القضية على الرغم من وجود أصوات كثيرة بين صفوفه تؤمن بضرورة مراجعة استفتاء /بريكست/.
وعلى الرغم من كل تلك التداعيات والجدل الدائر حول جدوى الخروج من الإتحاد الأوروبي، يرى المراقبون أن التغير في المزاج العام ضد اتفاقية /بريكست/ لن يتم ترجمته إلى استفتاء جديد في المستقبل، لكن ربما تحدث مراجعة للعلاقة مع الإتحاد الأوروبي، بحيث يجري التفاوض من جديد على علاقة أكثر قربا من الإتحاد واتباع نموذج مختلف عن النموذج المتبع حاليا، لا سيما في ظل تفاقم الوضع الاقتصادي في بريطانيا وتواصل انكماش الاقتصاد.