في أيامنا هذه، وفي عالمنا هذا، كثيرة هي تلك الأمور الجدلِّية، فمن جدلّية من المسؤول الحقيقي عن تدهور أو تطور الدول والحضارات، وهل أن تلك المسؤولية تقع على عاتق الحكومات والمسؤولين ام على عاتق الشعوب والأفراد العاديين، الى العديد من الجدليات الأخرى والتي باتت محطات التلفزة ووسائل السوشيال ميديا اليوم احدى اهم مصادر تغذِيتها ونشرها، وها نحن اليوم وفي ظِل هذه الظروف الصعبة والغير اعتيادِية فإننا وفي خضَّم البحث عن بصيص جديد للأمل في قضيتنا الأم وهي القضية الفلسطينية نجِد جدلِّية جديدة تنتشر الآن بين الناس عبر الباب الواسع للاقتصاد والأعمال، فنجد الناس مقسومين بين فريقين، فريق منهم يدعو للمقاطعة والابتعاد عن كل الشركات والدول والاسماء والعلامات التجارِّية التي تدعم دولة الاحتلال، وفريق آخر قد لا يتفق مع الفريق الأول فنجِده وإن لم يحارب المُقاطعة لكنه لا يُشجِّعها فهو وفي نفس الوقت ممن يقلِلون من شأن هذه المقاطعة ويعتقدون بأنها ليست ذات تأثير كبير على تلك الشركات والجِهات، فما نحن برأيِهِم الا ثلاث مئة مليون شخص لا يُشكِلون بأي حال من الأحوال قوة شرائية قادرة على التأثير والضغط التجاري على شركات أسواقها تفوقنا بعدة أضعاف، بل وان بعضهم يعتبر أننا وان أثّرنا فإن التأثير سيكون على تُجارنا المحليين وعلى ممثلي هذه الأسماء التجارية وليس على الجِهات والشركات الأجنبية نفسها، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي المقاطعة؟ وما هي أهميتها؟ وهل هي ذات تأثير حقيقي على الاقتصادات والشركات؟ وكيف يُمكننا الاستفادة منها واستغلالها لصالح الدول والشعوب؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان تعريف المُقاطعة من الناحية العامة هو الامتناع الاختياري والمُتعمد عن استخدام أو شراء أو حتى التعامل مع شخص أو شركة أو بلد أو أي جِهة معينة وذلك كنوع من التعبير عن الاحتجاج والرفض لأعمال وتصرفات هذه الجِهة لأسباب اخلاقية أو سياسية أو دينية أو لاي أسباب أخرى وذلك بهدف الحاق الخسائر المالية والاقتصادية بهم أو في محاولة لإجبارهم على تغيير ذلك السلوك المرفوض، عِلما بأن هذا الفِعل يبقى تحت اسم المُقاطعة طالما هو تحرك شعبي عفوي غير تشريعي فإذا ما شرّعته الحكومات وحولته لقانون فانه وفي هذه الحالة يتحول من حالة مُقاطعة الى حالة ما يُسمى بالعقوبة أو الجزاء، وهنا تجدر الإشارة الى أنه وبالرغم من أن المُقاطعة وبشكل عام هي الأداة السهلة والرخيصة والتي تكاد أن تكون الوحيدة في أيدي الناس البُسطاء والشعوب الا أنها ومن الناحية التسويقية والتشغيلية تكاد تكون كابوس أي منتج أو شركة تعمل في العالم، خاصة اذا كان من يقوم بحملة المُقاطعة جماعات فعّالة وقادرة على التأثير في الدول والمجتمعات، ولنا فيما حدث في كل من الحركات الاجتماعية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الستينات لمناهضة التمييز ضد أصحاب البشرة السوداء، وفي حملات مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وأيضا ما تم عبر المنظمات والتكتلات المعنية بحقوق الإنسان للضغط على الجهات المرتبطة بالانتهاكات، أو حتى المنظمات البيئية التي تضغط على الشركات والدول لتغيير سياساتها المتعلقة بالبيئة ونتائج تلك الأعمال خير دليل على مدى قوة وتأثير عمليات المُقاطعة الشعبية على تغيير السياسات والأفكار في المجتمعات والدول، وما موقفنا اليوم نحن العرب المنتشرين في العالم والذين يحكمون ويعيشون على مساحة ثلاثة عشر مليونا وخمسمئة ألف كيلو متر مربع الا تحديا جديدا امام الايمان بالنفس والقدرة على التغيير وبين الرعونة والغرور وعدم الاعتراف بالخسائر أو حتى القبول بفكرة التنازل لتغيير السلوك الغير مستحب لدينا من قِبل تلك الشركات أو الجِهات، فنحن وان كان بعضنا قادر ومقتنع بما نملك من قدرات الا أن بعضنا الآخر غير مُتفق مع هذه الفكرة، بل هو وفي أغلب الأحوال غير قادر على الاستغناء عن رفاهية نوع الشامبو أو مسحوق الغسيل الذي اعتاد عليه حتى وإن كان الثمن أن يُوصل موقفه من أحداث مأساوية أو فكرة وجودية للجهة الأخرى من الناس والعالم، فتجِده غالبا ممن يبحث في حديثه عن أسباب لعدم المشاركة في تلك المُقاطعات فبالنسبة له من ناحية نحن غير مُهمين أو حتى مُؤثرين ومن ناحية أخرى نحن غير منظمين أو مُتّحِدين، فهو وبرغم ذاكرته القوية نسى أنه وبكلا الحالتين ساهم ولو بالقليل القليل في كوننا مُهمشين وغير مسموعين أو مقروئين في عالم باتت فيه قوة الإرادة و الايمان هي السلاح الحقيقي لمواجهة الحملات والاعتداءات الدائمة على شعوب مقهورة لا تملك الا الموقف والدعاء، وفي زمن باتت فيه حرب الأفكار هي الحرب الأقوى والاشرس فما مُظاهرات فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية وبرغم بُعدِها عنا الا دليل على أننا مؤثرون وفعّالون وقادرون على اقناع العالم بالحقائق والبراهين، وما ارتفاع الأصوات المناهضة والتعتيم والقمع لتلك المظاهرات الا اعتراف جديد بمدى الخوف الحقيقي من انتشار الحقيقة بين الناس والشعوب فما ضاع حق وراءه مُطالِب وما كان الساكت عن الحق الا شيطان أخرس، هكذا نحن وهكذا سنكون. واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن المقاطعة هي من أهم الأسلحة الشعبية للدول والشعوب، وهي تعكس للعالم أولا مدى اتفاق الناس على رفضِهم لفكرة او سلوك مُعين من أي جهة خارجية، ومن ناحية أخرى هي بذرة أساسية لخلق حالة من الدعم النفسي والمعنوي للمُتضررين من هذه الاعمال والتصرفات، وهي أيضا فرصة حقيقية لتشجيع المستثمرين ورواد الاعمال المحليين على انتاج وتسويق منتجاتهم المحلية بل وتطويرها وتحسينها لتصل للعالمية، والأهم أيضا هو أنها مقياس لمدى ايماننا بأنفسنا واعتزازنا بأشقائنا وأهلنا وشعوبنا وان اختلفت اللهجات والأعراق، وهنا أستذكر المقولة التي رُوِيت عن " علي بن أبي طالب" وهي التي نحتاجها كثيرا في أيامنا هذه " إنما أُكلت يوم أُكِل الثورُ الأبيض ".