ضغوط العمل.. قنابل موقوتة

العمل ضرورة من ضرورات الحياة سواء كان ذلك على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى النفسي، فهو الوسيلة الأولى والأكثر شيوعاً لتأمين الحاجات المادية لأي شخص وهو ما يمكنه لاحقا من المضي بحياته قدما، كذلك فإن العمل هو أحد أهم وسائل التميز والإبداع والذي غالبا ما يسعى إليه الأشخاص بحثا عن إثبات ذاتهم وإبراز صورة جيدة لقدراتهم ومميزاتهم وهو أيضا ضرورة جسمانية ونفسية لها فوائد عديدة على المستوى الصحي والإنساني. ومع تغير الحياة ودخولها في تعقيدات فرص العمل وطرق الإنتاج والثورات الصناعية والتكنولوجية المتعاقبة أصبحت كثير من الوظائف تشكل عبئا كبيرا على من يقوم بها، فالأخطاء في عالم الأعمال باتت تترجم إلى خصومات وعقوبات، والتقصير أصبح سبيلا أساسيا في الصرف من العمل وغيرها الكثير والكثير، وهو ما جعل من هذا العمل وبالرغم من كونه مجموعة الأنشطة التي يقوم بها الفرد لتحقيق هدف معين، يتحول ليصبح مصدرا كبيرا للقلق، بل وحتى مادة دسمة لخلق حالة من الضغط تتعلق بكيفية تنفيذ الأعمال بصورة ترضي المديرين والمسؤولين، بل وحتى المتابعين أحيانا، وهو ما جعل الكثير من الأمراض تظهر وتنتشر بين طبقات العاملين والموظفين. من الناحية العامة فإن ضغوط العمل هي مجموعة من التّفاعلات التي تحدث بين البيئة والظروف العامة للعمل نفسه والأفراد الذين ينفذون هذه الأعمال، وهو ما يؤدي إلى ظهور حالةٍ من العراقيل الوجدانية والتي تحول دون إنجاز العمل بصورة صحيحة ومن أهمها القلق والتوتر، حيث ينتج عن هذه العوامل ظهور آثار في سلوك ونفسية الأفراد العاملين وهو ما يزيد لاحقا مجموعة التراكمات التي تجعل من مكان العمل مكاناً غير مرغوب فيه مما يؤدي إلى عدم تنفيذ العمل بالصورة المطلوبة أو حتى تنفيذه ولكن على مضض. أما من الناحية الاقتصادية فإن ضغوط العمل هي واحدة من أهم أسباب نقص الإنتاجية وذلك نظرا لخلق حالة من الإحباط أو عدم المبالاة لدى كثير من العاملين وبالتالي تدهور مستوى الخدمة المقدمة من قبلهم وهو ما قد يكون واضحا في قطاع الخدمات مثل المطاعم أو في أقسام خدمة العملاء في الشركات والمؤسسات، ونظرا لذلك فقد تحولت كثير من الشركات إلى أنظمة عمل ذات هامش واسع من الحرية للموظفين وذلك بهدف تحسين مستوى الإنتاجية لديهم ورفع ضغوط العمل السلبية عنهم، ولنا في شركات كبيرة وعالمية مثل جوجل خير مثال على ذلك فها هي ساعات العمل بهذه الشركات تتميز بمرونة كبيرة بل ويتم قياسها بكمية الإنجاز والوقت اللازم للانتهاء من العمل المطلوب بغض النظر عن الحضور الجسماني أحيانا بل وحتى مواعيد العمل نفسها فالمهم هو إنجاز العمل ضمن مهلة الوقت المحدد وبغض النظر عن تفاصيل ساعات العمل، كذلك فإن وضع بعض أدوات التسلية والترفيه في مكان العمل وحث الموظفين على استعمالها له أثر بالغ في خلق بيئة عمل مثالية تقوم على حب العمل وزيادة روح الانتماء للشركة وفريق عملها وهو ما تم إثباته من خلال كثير من الشركات كعامل حاسم وأساسي في رفع مستوى الإنتاجية وتحسين الخدمات المقدمة للعملاء بل وحتى زيادة مستوى الإبداع المهني والفكري في قطاع الأعمال. هذا ومما هو جدير بالذكر فإن الكثير من ضغوط العمل قد يكون سببها سوء تنظيم من إدارة الشركة نفسها وهو ما يجعل معظم الأعمال تقع على عاتق مجموعة صغيرة من الموظفين، كذلك فإن الضغوطات قد تكون بناء لنوع العمل نفسه وحاجته إلى الاستدامة في الدقة والتركيز، أيضا فإن شخصية الموظف وطباعه ووضعه في المكان المناسب قد يكون من الأسباب الجوهرية في زيادة مستوى الضغط وخلق حالة من التشنج في تطبيق الأعمال. أما لمعرفة مدى تأثير ضغوطات العمل على الحياة العامة فإنه يكفي معرفة أن معظم البشر يقضون حوالي 9 ساعات في اليوم بمكان عملهم وهو ما يجعل من شعورهم الذاتي في العمل أساسا لتحديد حالتهم النفسية خارجه، هذا وقد أفادت بعض الدراسات في إسبانيا بأن 60 % من العمال يعانون من الإجهاد بسبب مناصبهم في العمل، بينما يشعر 37 % فقط بالسعادة وذلك بسبب مستوياتهم في التوازن بين العمل والحياة. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي، إن ضغوط العمل وبالرغم من سلبياتها إلا أنها قد تكون مفتاحا جيدا لخلق حالة من التحدي لرفع مستوى الإنتاجية وذلك بشرط وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وبناء بيئة عادلة للعمل تقوم على أساس تقدير الظروف المحيط ومكافأة المبدعين دون مطالبتهم بالمزيد وهو ما يجعل سقف التوقعات قريبة من مستوى الإنجاز وبالتالي يقلب الضغط إلى حافز للمضي بالعمل والإنتاج بأعلى مستويات الجودة والإنتاج وهنا أستذكر قصة "وليام سيديس" عالم الرياضيات الشهير والذي يُعتبر أذكى شخص في العالم حيث حصل على 270 إلى 300 نقطة في "اختبار الذكاء IQ" وهو أعلى معدل تم تسجيله، بدأ "سيديس" بتعلم الحروف الأبجدية في عمر 6 أشهر وحين بلغ عمره سنة ونصف السنة كان يقرأ صحيفة "نيويورك تايمز"، وتعلم اللاتينية قبل أن يتجاوز ثلاث سنوات، وفي السابعة من عمره أتقن التحدث بثماني لغات بطلاقة، ومن ثم أنهى تعليمه والتحق بجامعة "هارفارد" في الحادية عشرة من عمره كأصغر طالب التحق بتلك الجامعة، ثم تخرج منها مع مرتبة الشرف عام 1914 وعمره 16 عاما ليصبح أصغر بروفيسور في التاريخ، ومن ثم كانت المفاجأة، ففي سنة 1924 أي بعد عشر سنوات فقط وجده أحد المراسلين الصحفيين يعمل ككاتب صغير، وعندما سأله عن السبب أجاب "إن كل ما يتمناه هو أن يقوم بعمل لا يشكل عبئا عليه وأن يكون بعيدا عن أضواء الإعلام" وكان عمره وقتها 26 عاما فقط، وبالفعل كان له ما أراد حيث قضى بقية حياته بعيدا عن العلم والرياضيات إلى أن توفي عام 1944 عن عمر يناهز 46 عاما وذلك نتيجة إصابته بنزيف في المخ.