لِماذا نُقاطِع.. وكيف نُقاطع

بعد الأحداث الأخيرة، ومع مرور أكثر من خمسين يوما على حرب كشفت للكثير مِنا ازدواجية المعايير والمقاييس في هذا العالم الصامت الكبير، بدأت تتعالى وبشكل واضح الكثير من الأصوات التي تُنادى بمُقاطعة منتجات كثيرة واستبدالها بمُنتجات محلية تخرج من نفس بيئتنا وتُفكر مع أصحابها ومبتكريها بنفس طريقة تفكيرنا، فبتنا نراها تُعبِّر عنا وتحمل احلامنا بمُجتمع مسؤول ومُدرِك لما يحدث الآن ويُكتب على صفحات التاريخ القادم، وبالرغم من ان هذه الأصوات قد باتت اكثر وضوحا وأعلى نبرة وتأثيرا إلا أنني كما غيري من الناس، سمعت أيضا أصواتا تُناقِض هذا التفكير فتقول هل نستطيع ان نُقاطع جميع المُنتجات الغربية، وان كنت ترغب بالمُقاطعة فعلا فلا تستخدم السيارات الأجنبية ولا تحمل هاتفك الجوّال بل ولا تُرسِل الرسائل الالكترونية او تُحرِّك " غوغل " مُحرِّك البحث الأجنبي ليجد لك الإجابات الشافِية السريعة عما ترغب في معرِفته والوصول له بأسرع وقت وأقل جهد، فها هي الكُتب العربية امامك ابحث فيها عما تريد، مناهج تفكير مختلفة قد لا يفهم أحدها البعض بل وقد يعتبرها ضربا من ضروب الخيال غير القابل للتنفيذ، لكن وبنفس الوقت فإن البعض الآخر قد يراها اكثر واقعية وأقرب للحقيقة والتطبيق، فقد يراها البعض من زاوية أسئلة مالية مثل، كم نحن نُمثل من نسبة التجارة الدولية ؟ وهل نحن قادرون على التأثير على تلك الشركات وإغلاقها مثلا؟ انها وبالحقيقة مناهج عديدة في التفكير يحتار البعض بينها فيُقاطِع حينا ولا يفعل أحيانا أخرى، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي المقاطعة؟ وهل يُمكن ان يتم تنفيذها على ارض الواقع؟ وما هو دورها وتأثيرها على الاقتصاد؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة أن اختصار المُقاطعة بنتائجها الاقتصادية والمالية فقط هو ظلم حقيقي لها بل هو أيضا نوع من تحديد الفِكر والتعبير بالنتائج دون الأخذ بعين الاعتبار عما يرمز له هذا الفِكر وعما يطمح إلى ايصاله للعالم على أمل ويقين بأن الحق هو بنوع العمل نفسه وليس بعدد من يقومون به، فلو كان الامر كذلك فلم يكن هناك من أي منطق عندما رفضت الأقلية من السحرة حكم فرعون امام الملأ، فهم وبرغم معارضتهم لما يقول الا أن نتيجة قرارِهم كانت واضحة امامهم ومنذ البداية، وكذلك فإنه وبنفس هذا المنهج الفِكري لم يكن هناك من أي فائدة عندما قرّر "غاندي" إيصال فكرة الثورة السلمية للناس عبر الوقوف امام العصا والرصاص دونما سترة تحمي صدور الثوار، وأيضا لم يكن لمن يتبع نفس المنهجية في التفكير لقرار القتال الذي اتخذه اي محارب خسر معركة حماية ارضه وشعبه مثل " عمر المُختار " أي سبب بل كان وبنفس المنطق من الأفضل الانتظار لتكون الظروف اكثر مواءمة وجهوزية، اما بتعريف المقاطعة فهي وبشكل مُختصر الامتناع الاختياري والمُتعمد عن استخدام أو شراء أو حتى التعامل مع جِهة معينة وذلك كنوع من التعبير عن الاحتجاج والرفض لأعمال وتصرفات هذه الجِهة، وهو محور الحديث فالمقاطعة هي نوع من أنواع التعبير وإبداء الرأي لإيصال رسالة واضحة بأن من يُقاطع هو رافض لما قامت به الجهة الأخرى من أفعال أو أقوال، وبالتالي فهي حق مشروع لكل شخص يشعر بأي نوع من أنواع الظلم من أي جهة كانت، وهي وسيلة سِلمِية للتعبير عن موقف وإيصال الصوت للجهات الأخرى، فهي وان لم تملك القوة الاقتصادية للتأثير على الأعمال اليوم إلا أنها وبدون أدنى شك ستحمل في طياتها بذرة لاستمرار رفض ما هو غير مشروع أو مرغوب به من قِبل الشعوب والمجتمعات. وبالحديث عن نتائج المقاطعات فيُمكِن اختصارها بشكل بسيط بأن نتائج مقاطعة المنتجات الأجنبية التي يتم تصنيعها وإنتاجها في الخارج ستكون واضحة على الاقتصاد المحلي عبر توفير فرص عمل جديدة وفتح باب استثمار جديد بالإضافة لتشجيع المنتج المحلي على التوسع والنمو، وهو ما يُساعد على نمو الاقتصاد عبر رفع الناتج المحلي وتوفير المزيد من فرص العمل بالإضافة لتحسين ميزان المدفوعات والميزان التجاري عبر تقليص الواردات وكذلك عبر تقليل الطلب على النقد الأجنبي، بالإضافة الى عامل تشجيع المنتجين المحليين على تطوير منتجاتهم وخدماتهم، وهنا يجب التنويه إلى ان بعض الآثار السلبية قد تظهر في حال عدم وجود منتجات محلية قادرة على سداد هذا الفراغ في الأسواق ومن أهمها انخفاض مستوى رضا العملاء أو سوء جودة بعض المنتجات البديلة، وهو ما يأخذنا لفكرة المقاطعة الذكية والتي تقوم على مبدأ ترك كل ما يُمكن استبداله بمنتجات محلية قادرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسية دون التأثير على الأعمال والنتائج. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن تقييم فكرة المقاطعة لا تتم عبر العلاقة الاقتصادية بل هي ذات بُعد يتعلق بنظرة الإنسان إلى نفسه وإيمانه بأن يقوم بما يجب عليه القيام به حتى وان لم يكن قادرا على التأثير، فلابد لذلك اليوم الذي سيتحقق فيه هدفه عبر من يكمل الطريق من بعده أن يأتي، وهنا أستذكر قصة المنبر المعروف بين العامة باسم "منبر صلاح الدين" وهو المنبر الذي أمر بصنعه " نور الدين زنكي" وهو يحلم أن يضعه بالمسجد الأقصى يوما ما، وقد صنعه امهر الحرفيين في سوريا سنة 1168 ميلادي عبر اكثر من 3568 قطعة خشبية ودون أن يدق فيه أي مسمار، وبالرغم من انه وفي ذلك الوقت لم يكن هناك أي دلائل على إمكانية فتح القدس، إلا انه وبعد وفاة نور الدين، وبعد فتح القدس على يد "صلاح الدين الأيوبي" عام 1187 ميلادي فقد تم بالفعل وضع المنبر في المسجد الأقصى، وكأن لسان حال الصانع كان يقول أنا فعلت ما علي وأتممت منبري فلابد أن يأتي من بعدي من يكمل العمل ويضعه هناك.