تنامت الرياضة منذ نهايات القرن التاسع عشر كلغة عالمية تُجمع عليها الامم، وتتوحد تحت أعلامها، مستثمرة بذلك تاريخ أصيل صنعته أثينا، وأعادت الاهتمام به أوروبا من خلال "بير ديكورتان"، لغةٌ يتحدثها الجميع دون حروف، وتلغى بها الاختلافات في لحظة الانطلاق لممارسة أي من اشكال النشاط البدني، والملتزم بالميثاق الأولمبي، لأنه عالم واحد، وحلم واحد، يختفي به أي تأثير للعرق او الدين او اللغة، ويسعى لادعاء فصل السياسة عن الرياضة، برجاء لا يغادر مستوى الطموح العاجز عن بلوغ حلمه، كيف لا، وأثينا أصلا وقبل الميلاد ابتدعت الالعاب الأولمبية لغايات سياسية، وبدافع الهاء الشعوب عن حياة أصحاب القصر، وانتشار الفقر نتيجة الفساد، والاحتكار للثروات، وحين أعاد حكماء "السوربون" احياء ارث أثينا كان لاعتبارات رأب الصدع في المجتمع الدولي، وإصلاح نسيج المجتمعات المفككة نتيجة الخلافات السياسية والعسكرية، فكانت الرياضة ومنذ تشكلها مرآة لإصلاح صورة مخلفات السياسة أحيانا، ومحرك لغايات عجزت السياسة عنها، فسعت الرياضة لاستكمال هذا الدور من حين لآخر، كما هي الحادثة الشهيرة للعبة "البينغ بون"على الحدود المتصارعة أو مخرجات المهجرين من ايرلندا، بسبب نادي "سيليتك ". انها كغيرها من الأدوات القابلة للتطويع، وانها تتمتع بمرونة التمرير والمفاضلة بين سحب الاعتراف بالرياضة الفلسطينية منذ اربعينيات القرن الماضي، وحتى العقود الأخيرة للقرن العشرين عبر الاتحاد السوفييتي سابقا، الذي أنصف اتحاد كرة القدم واللجنة الأولمبية الفلسطينيين باعتراف خجول في التطبيق والممارسة، ولم يبلغ منتهاه قبل بدايات القرن الواحد والعشرين، كذلك الأثر في الاستخدام الاذكى من قبل "مانديلا" ليقضي على العنصرية في جنوب افريقيا، ويبلغ حلما عجزت عنه آلام وسنين النفيّ التي استهلكت شبابه، لقد تجسدت العلاقة بين الرياضة والسياسة واكتسبت شرعيتها تبعا لما أنجزته وبلغت به أحلام الأمــــــم. لكن ذلك لا يعني أن تُستثمر هذه الحميمية بين الناعمتين باحترام لقواعد العلاقة بين الشعوب وإحترام كينونة الامم، حيث تجسدت مساعي حثيثة لإفشال قطر منذ لحظة طلب الاستضافة في العام 2012، وحتى عشية يوم الانطلاق في 20 من نوفمبر2022، وجندت الاتهامات بتوجيه من سياسات مشبوهة لحجب الحلم عن التحقق، فردت الحنكة السياسية والقرار بشرعية الحلم وصنعت قطر استضافة لن يكتب التاريخ بعدها، وتحول بساطها الأخضر لسيمفونية إنسانية عكست مدرجاتها صدى حناجر صدحت بالسلام الوطني من أعظم الرياضيين سفراء أحلام شعوبهم، وصمتت حناجر أخرى لحقوق مشروعة احرجها شعور أُمتهم بأنهم مفصولون عن ألمها، وأخرى صمتت لحقوق مشبوهة وغايات موجهة لإحراج منظمة الفيفا كونها احترمت قوانينها وحافظت على قيم أمة الدولة المستضيفة صانعة مونديال التاريخ، الذي أتاح بفضاءاته حرية الصور المتعددة المتباعدة لعلاقة السياسة مع الرياضة، ما بين مشكك وحاقد، وما بين استثمار إنساني لدعم الحقوق، وتوجيه الاهتمام بقضايا ظلم ما زلت تتفاعل، ومحرك نحو عدالة شمولية، وإقرار بتمازج المواطنة مع الأهداف السامية للرياضــــــــــة. صورة صريحة للتكامل المتين بين السياسة والرياضة، الداعم للضمائر عبر منصة تلقى الاهتمام والحب لعشق المستديرة، فتبلغ بالأحلام والحقوق موضع يحافظ على خصوصية اللعبة وسحرها في ضوء مسؤوليتها نحو قضايا الأمم التي تعشقها، وتنشد الحق لان تبقى عشق الأمم والضيف المتاح لكل بيت، كما هي أداة عقاب لأمة تعارض قادتها مع منظور موازين القوى في العالم، فتمكنوا من حجب مشاركة مستضيف المونديال الماضي روسيا 2018 ليكون خارج الاستضافة الحالية، مما يؤكد مرة أخرى أننا لن نستمر بالادعاء لفصل الرياضة عن السياسة، لكن يجب رفض الازدواجية في علاقة عمياء تنظر للحقوق وحريات الشعوب تبعا لرؤية ضبابية تحدثها هيمنة القوى على هذه العلاقة المقبولة والحتمية، ويتطلب ان ترتقي الرياضة بالسياسة نحو عدالة شمولية لمجتمع انساني، سعى دائما لحق الأمم بالرياضة واللعب النظيف، وان يكون دورها لتغيير واقع الحق بالحياة والوجود لجميع الأمم، لان المسافة بين فلسطين وكرواتيا أصغر بكثير من اختلاف المصالح بين روسيا وأمريكـــــــا.