كلما انتظمت البشرية في قالب أو قوالب من التعاملات التجارية المشتركة فيما بينها وفق صيغة أو صيغ من المنافع المتعددة التي تتوثق عراها بشكل متنام مع تقدم وسائل النقل والاتصال التي شهدت عبر القرنين الماضيين تطورات وطفرات على مراحل متفاوتة، فإن ذلك الانتظام والتقارب يعدان في حقيقة الأمر شكلا من أشكال العولمة ويعبران عنها، فالعولمة ليست وليدة اليوم ولم تظهر فجأة من رحم العصر الحديث وإنما مرت بمراحل متعددة من التطور والنمو، ويمكن تعريف العولمة بأنها (ظاهرة عالمية تهدف إلى تعزيز التكامل في المجالات الاقتصاديّة، والتجاريّة، والماليّة، وغيرها، وكذلك الربط بين القطاعات العالميّة والمحليّة، من خلال تعزيز انتقال السلع ورؤوس الأموال، وتُعرّف أيضاً بأنها دعم القطاع التجاريّ في جميع أنحاء العالم، وذلك من خلال المنشآت الضخمة الموجودة في دولٍ متعددةٍ ومتنوعة والتي تنتج السلع والخدمات، كما وتُعرّف بأنها عملية يتمّ تطبيقها من قِبل الشركات والمؤسسات؛ من أجل تحقيق نفوذٍ دوليّ أو لتوسيع عملها ليصبح عالميّاً بدلاً من أن يكون محليّاً). وقد أسهم تطور النقل البحري عبر البحار والأحواض النهرية على مستوى العالم وسكك الحديد فيما بعد في ارتفاع حركة البشر والسلع والمال وزيادة التبادلات والمنافع التجارية بين المدن والدول والشعوب على مستوى العالم، وفي المقابل مكنت (المعلومات الرخيصة والوفيرة عن البلاد الأجنبية الناس من مقارنة ظروفهم في الوطن مع الإمكانات البعيدة، ما شجع عشرات الملايين على المغامرة بالهجرة)، فقد (شملت الهجرات الضخمة من الهند والصين وأوروبا بين العامين ١٨٣٠ و١٩١٤ أكثر من مائة مليون إنسان)، وكانت (السلع والمال تنتقل بسهولة أكبر من البشر)، وفي الفترة ذاتها ارتفع نمو الاستثمار الدولي بنحو (ثمانية أضعاف)، وقد عبرت هذه التحولات عن (سوق عالمي أشد إحكاما)، ورغم اندلاع الحروب الشاملة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الحربين العالمية الأولى والثانية مثالا، إلا أنها لم تتمكن من أن تفكك خيوط الشبكة العالمية وتلغي الصلات بين الشعوب والدول، ولهذا السبب بالذات انتشر الكساد حول العالم في العام ١٩٢٨ عندما (امتص ازدهار في سوق الأوراق المالية كل رأس المال المتاح)، وهو ما (أطلق تفاعلا متسلسلا حول العالم)، أدى إلى تدمير (الاقتصاد العالمي)، الذي (انكمش بنسبة الخمس، والتجارة العالمية بنسبة الربع، ووصلت مستويات البطالة في الدول المتضررة إلى ما بين 20 و30 %، وانخفضت أسعار الغذاء والمواد الخام بنسبة النصف، وفقد المزارعون والفلاحون حول العالم معظم دخولهم...)، بل لن نبتعد عن الحقيقة اذا ما اعتبرنا أن تلك الحروب كانت بمثابة دوافع ومحفزات لخلق تعاون أكبر بين دول العالم وربط شبكاته ببعضها البعض، ما أدى بعد نهاية كل حرب إلى إنشاء كيانات ومنظمات اقتصادية ومالية وسياسية عالمية عمقت من صيغ العولمة التي يسرت من انتقال الأزمات الاقتصادية إلى عشرات الدول بشكل سريع ومؤذ. وفي مرحلة أخرى حولت الثورة التقنية ممثلة بالتوازي في الهاتف والسيارة والراديو والتلفزيون والطائرة وشبكات الحاسوب والانفجار المعلوماتي الهائل والتطور السريع في فعالية وأداء عمل كل منها وانخفاض تكلفتها - حولت - العالم إلى قرية كونية، وقيم العولمة وثقافتها منافعها ومضارها واقع لا يمكن لأي دولة الفكاك منه، إنه أصبح - أي العالم - أشبه بالجسد الذي ما أن يعتل جزء فيه حتى تصاب بقيته بـ (السهر والحمى).