لا يزال العالم يعيش في حالة من الاضطرابات التي أحدثتها جائحة (كوفيد- 19)، الفيروس الذكي الذي تسبب في تدهور النظام العالمي من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وأحدث شللاً شبه تام في العديد من الدول، تحولت معها مُدن صاخبة لمحاجر صحية، وتوقفت معظم الأنشطة الصناعية والاقتصادية والمواصلات بشكل شبه تام، وأدخل الاقتصاد بحالة من الركود انعكست سلباً على حجم الاستهلاك العالمي من النفط، محدثة تخمة في المعروض. وتزامن ارتفاع المعروض مع نشوب حرب أسعار بين كبار المنتجين، لتضيف ضغوطاً إضافية لتتراجع معها الأسعار لمستويات مغرية للمستهلكين، كان أكبرها الانخفاض السلبي لأسعار العقود الآجلة للخام الأمريكي الخفيف في تداولات يوم الثلاثاء الماضي في محاولة المتعاملين التخلص من عقود النفط تسليم مايو للتقليل من خسائرهم، في ظل إحجام مشتريها التقليديين كخطوط الطيران ومصافي البترول عن الشراء، نظراً لاستمرار الاضطرابات بحركة قطاع النقل عالمياً الذي يستهلك قرابة 60 في المائة من النفط. فمستويات الأسعار الرخيصة أوجدت فرصة ذهبية للدول المستهلكة لرفع مخزونها الاحتياطي من النفط الرخيص إلى الحدود القصوى، للاستفادة منه مستقبلاً في تخفيض نفقات استيراد النفط، فكبرى الدول المستهلكة للنفط مثل الهند والصين اقتنصت هذه الفرصة، فالحكومة الصينية مثلا طلبت من وكالاتها وقطاعها الخاص ملء خزاناتها بالنفط ضمن خططها لزيادة قدرة احتياطيها الإستراتيجي من النفط إلى 503 ملايين برميل بنهاية هذا العام، والصين والهند ليستا وحدهما اللتين تشتريان وتخزنان النفط، بل عشرات الحكومات استغلت الانخفاضات الشديدة لبناء مخزون إستراتيجي من النفط الرخيص. إن هذه الأزمة أظهرت بوضوح النقص الحاد بالقدرات التخزينية المتاحة، الأمر الذي زاد من حدة تذبذب الأسعار وانخفاضها، فالطاقة التخزينية العالمية تبلغ حالياً 1.6 مليار برميل، مقابل توقعات ضخّ أكثر من 1.8 مليار بالأسواق خلال النصف الأول من العام، الأمر الذي دفع بالمستهلكين والمضاربين نحو استخدام ناقلات النفط لتخزينه والتي تحمل حالياً أكثر من 160 مليون برميل أي 60 مليون برميل أكثر عما شهده العالم خلال الأزمة المالية بالعام 2009، ليرفع الطلب على استئجار ناقلات النفط وأسعارها لمستويات قياسية. وهذا يشكل تحدياً آخر أمام المنتجين بعد انفراج جائحة (كوفيد- 19)، فحجم المخزونات من النفط الرخيص مرتفعة جداً ووصلت إلى مستويات قياسية أعلى من المستويات السابقة التي عانت «أوبك» وحلفاؤها من تقليصها على مدى سنوات، الأمر الذي سيشكل تحدياً كبيراً أمام الدول المنتجة لتقليص كميات المخزون ورفع الأسعار مستقبلاً، فالمنتجون سيحتاجون إلى بذل جهد أكبر بالسنوات القادمة لإعادة الاستقرار للأسواق والتي ستكون مؤلمة وعلى حساب ثروات أجيالها القادمة، خاصة أنها ستلجأ للاقتراض بشكل كبير من الأسواق الدولية لتعويض انخفاض إيراداتها، وربما تسييل بعض أصولها واستثماراتها في الداخل والخارج. فالمطلوب تقييم شامل للوضع الحالي وخطط القطاع المستقبلية، وإعادة نظر الحكومات في هياكلها الاقتصادية بهدف تقليل الاعتماد على عائدات النفط والغاز، وسرعة تضافر جميع العوامل المؤثرة في الأسواق لتعافي الطلب والأسعار، وأخذ الإجراءات اللازمة لتفادي أسعار نفط مرتفعة للمستهلكين على المدى الطويل، نتيجة توقف الاستثمار في الحفر والتنقيب والإنتاج في ظل الأسعار المنخفضة وتعثر العديد من الشركات ذات الإمكانيات المالية المحدودة جراء تكاليفها المتزايدة، كشركات النفط الصخري الأمريكية التي بدأت بالفعل بتقديم طلبات حمايتها من الإفلاس، فخروج العديد منها بالفترة المقبلة يعني زيادة في الاحتكار، وحدوث تغييرات جوهرية بخارطة صناعة الطاقة في الأعوام القادمة، الأمر الذي سيدفع بدول مثل أمريكا وغيرها لتقديم دعم إضافي وكبير لهذه الصناعة.