أسواق المال .. هامش من الخوف والطمع

أسواق المال ذلك المكان الواسع، ذو الفضاء الرحِب، الذي يحمل بين أرقامه المُتحركة وألوانه المُتغيِرة الآلاف من الأحلام والأمنيات، نعم أحلام كبيرة يرسمها البعض وينتظر تحقيقها عبر ارتفاع صاروخي لسهم مُعيّن أو لمجموعة من الأسهم التي يملكون فيها استثماراتهم وأموالهم الممزوجة مع أمانيهم بالثراء السريع، أما البعض الآخر فجُلّ أحلامه تتمثّل بانخفاض مفاجئ وغير مُبرّر لسهم قد باغتهم بارتفاعه ولم يُسعِفهم الوقت والمُتابعة لشرائه، فارتفع دون أن يستفيدوا منه وهو ما جعلهم يتمنون هبوطه التصحيحي لإعادة الشراء وركوب موجة الارتفاع المُتوقعة، فطبيعة عمل المتداولين ممزوجة بآلية عمل الأسواق تجعل من وجود صداقة دائمة بين مُتداول وآخر أو بين مُتداول وسهم هي عملية شبه مُستحيلة، فقد علمتنا الأسواق أن صديق اليوم هو عدو الغد، خاصة أن الأسهم هي كما الحياة كل يوم في شأن، فمن كان يتحرك ويرتفع بالأمس بات اليوم على شفا حفرة من التصحيح وجني الأرباح، ومن كان يُحقِّق الخسائر سابقا بات اليوم سهما مُربحا وواعدا، إنها سُنَّة الحياة وناموس الكون والطبيعة، كل هذه المُتغيرات وجميع تلك الحسابات والأرقام جعلت من الاستثمار في سوق المال خطوة مُهِمة تحتاج إلى الدرس والتحضير، فالمال هو كما الطاقة لا يُستحدث ولا يأتي من العدم ولكنه وللأسف قد يفنى وبأي لحظة أو بناء لأي خطأ استثماري، هذه اللامحدودية الواسعة في تحقيق الأرباح أو في تحمُّل الخسائر كانت وما زالت سببا رئيسيا لخلق حالة من الخوف أو الطمع هما وبرغم ما يُشكلانه من صفات غير محمودة لدى البعض إلا أنهما كانا العاملين الأساسيين لنجاح أسواق المال وعملها، فلا أرباح بلا خوف ولا خسائر بلا طمع، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي طبيعة عمل الأسواق؟ وما هو تأثير الخوف والطمع عليها؟ وكيف تتأثر أسواق المال بهما؟ وهل من طريقة لتحديد مستويات هذه التحركات وردّة الفعل عليها؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة أن سوق المال هو المكان الذي يتم فيه بيع وشراء الأسهم والأوراق المالية، وبالتالي فهو عبارة عن تلاقٍ لحالات مُختلفة من الطلب والعرض التي تجتمع في مكان واحد بحثا عن نقيضها لإتمام عملية البيع أو الشراء، فالبائع لا بد وأن يقابله مُشترٍ يرغب في شراء البضاعة المعروضة في نفس السعر الذي يرغب البائع في بيعها به، يا له من تناقض غريب وتغيُّر غير مُبرّر، فإن كان الشراء مُجزِيا، لِما يقوم البائع بالبيع؟ وإن كان البيع فرصة جيدة، فلِما يشتري الأسهم من يشتريها؟ قرارات مُتناقضة ولكنها تُشكِّل بحذافيرها روح سوق المال؟ فلِكُلٍ حساباته، والأهم أنه لِكُلٍ طبائعه وصفاته، فهناك المُغامر والمُتحفِّظ وهناك المُندفِع والمُتمهِّل، تتعدّد الصفات والنتيجة واحِدة أو تكاد تكون واحدة، فلا ربح ولا خسارة إلا بخوف أو طمع ولا تداول أو استثمار إلا بخوف أو طمع، نعم هما صفتان اثنتان ترسمان عالما كاملا من التداول تُحرِكان أموالا واستثمارات عملاقة من المحافظ والمؤسسات، وبالحديث أكثر عن الخوف والطمع فإنه وبكل بساطة يُمكن تلخيص علاقتهما بالسوق بأن البائع غالبا ما يبيع بسبب مخاوفه من نزول أسعار سهم مُعيّن أما المُشتري وبأي وقت فهو دائما ذلك الشخص الذي يحلم بشراء سهم يطمع أن يُحقِّق عبر تملُّكه أرباحا ناتجة عن ارتفاع أسعاره، وبالتالي فإن إحساس المُستثمر بالخوف يدفعه للبيع أما إحساسه بالطمع يأخذه نحو القيام بعملية الشراء، صراع حقيقي بين مشاعر الناس تجعل منهم ساحة قتال تظهر نتائجها في قاعات التداول وعلى قوائم الدخل وتقارير التداول، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه وبكثير من الأسواق المُتقدِمة باتت مؤشرات الخوف والطمع من أهم المؤشرات والأرقام التي يتابعُها المُستثمرون ويبنون على أساسها قراراتهم الاستثمارية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا وفي أسواق العملات الرقمية والافتراضية، هناك مؤشر يطلق عليه مؤشر الخوف والطمع، وهو المؤشر الذي من خلاله يحاول المتداولون إنقاذ أنفُسِهم من ردود الأفعال العاطفية المفرطة حيث يُحلل المؤشر ويقيس العواطف والمشاعر تجاه الأسهم مستندا إلى افتراضين بسيطين، الأول هو أن معظم الناس يميلون إلى الجشع عندما يرتفع السوق وأيضاً وبنفس الوقت فغالباً ما يبيع الناس أسهمهم في رد فعل غير منطقي عند انخفاض الأسعار وعند بداية رؤية الأرقام الحمراء، وهذا ما يعني حِسابيا أن العديد من المستثمرين غير المُحترفين والذين يتبعون مشاعِرهم أكثر من التحاليل المُحترِفة يميلون إلى الشراء بسعر مرتفع والبيع بسعر منخفض وهو ما يجعلهم يحققون خسائر غير مُبررة في كثير من الأحيان بالرغم من تحركات الأسواق الإيجابية. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن العوامل النفسية المُختلِفة التي يمر بها المُتداول هي المُحرِك الأساسي للأسواق، فعلى مستوى الحياة ككل يعتبر كل من السعادة والحزن هما العوامل الأساسية لمعظم أفعال الناس أما على مستوى الأسواق فيعتبر كل من الخوف والطمع هي نقاط الضعف الأساسية التي يستطيع أي متداول قوي استغلالها لتحقيق أرباح على حساب من يتبع مشاعره دون أي حساب للتحاليل والدراسات المنطقية والعملية، وهو ما يجعل عملية الخوف من انخفاض الأسهم يقود الأسهم إلى مزيد من الانخفاضات الغير مُبرّرة، وهنا أستذكر مقولة "سينيكا" الذي يقول "من الحرب أسوأ من الحرب نفسها".