الترويج الذكي

وفق المنطق الاقتصادي، يفترض أن تتدفق رؤوس الأموال من البلدان الغنية إلى الفقيرة والنامية، لكن هذا المنطق لا يعمل دائما بالصورة المثلى، ذلك أن رأس المال يبحث عن الفرص التي تحقق العائد المناسب، متجها في حركته نحو الدول ذات الاقتصاد الواعد، والثروات الإستراتيجية، والعمالة المؤهلة، مسترشدا بأسعار الفائدة ومعدل دخل الفرد وميزان المدفوعات ومستوى الثقافة وغيرها. يؤكد ذلك ما جاء في مجلة التمويل والتنمية من أن 63% من الاستثمار العالمي المباشر يحدث بين أسواق الاقتصادات المتقدمة، و20% بين المتقدمة والصاعدة، و6% بين الأسواق الصاعدة نفسها، و11% من الصاعدة إلى المتقدمة، مما يعني أن تلك الأسواق تهيمن على سوق الاستثمارات العالمي، ففي العام 2016 سجل حجم الاستثمارات -بمليارات الدولارات الأمريكية- في الولايات المتحدة 385، بريطانيا 179، الصين 139، هونج كونج 92، سنغافورة 50، البرازيل 50، فرنسا 46، هولندا 46، أستراليا 44 والهند 42 مليار دولار، فيما بلغ إجمالي الاستثمار في جميع الدول العربية 44 مليار دولار في العام 2014. خلال العقود القليلة الماضية حدثت أضخم إعادة توزيع للثروة العالمية، نجم عنها تحول دول صاعدة كالصين، ودول نفطية كدول الخليج العربي، إلى أكبر مستودع للثروة ورأس المال، مقابل تراجع دول غنية كالولايات المتحدة ودول أوروبية، بحيث بات رأس المال ينتقل من الدول الصاعدة والثرية الجديدة إلى الدول المتقدمة، وربما كان ذلك أحد العوامل التي سمحت بتماسك الاقتصاد الغربي ولو بالحد الأدنى إبان الأزمة المالية العالمية في العام 2008 وما تلاها. تلك الأزمة التي عصفت بالاقتصاد العالمي، ونجم عنها تحديات أثرت مباشرة في حركة الاستثمارات العالمية، وغيرت ملاذاتها الآمنة، ورفعت نسب المخاطرة في انتقال رؤوس الأموال، وهو ما دفعت ثمنه الدول النامية، خصوصا مع انخفاض حجم التدفقات العالمية للاستثمار الأجنبي المباشر كما في العام 2016 مثلا، فبحسب تقرير «الأونكتاد» انخفضت تلك التدفقات بنسبة 13% بشكل عام، وبنسبة 20% للاقتصادات النامية بشكل خاص، مما أثر على معدل النمو الاقتصادي للدول النامية، وأدى من بين أمور أخرى إلى تفاقم المديونية والعجز والبطالة والفقر فيها.  المشكلة أن الدول النامية تعاني اليوم ليس فقط من عدم وجود أموال تتدفق إليها، بل من بيئة استثمارية ضعيفة، وهي تركز في ترويجها الاستثماري على ميزات جانب العرض المتقادمة كالموارد الطبيعية التقليدية، والحماية الحكومية، والبروتوكولات التجارية، والأجور المنخفضة، وعوامل إنتاج بسيطة لخفض التكلفة، فيما رأس المال الاستثماري يبحث اليوم عن ميزات جانب الطلب، كالجودة، وحاجات المستهلك، والنوعية، والابتكار، والفكرة غير المسبوقة، وعوامل إنتاج متطورة، وعمالة ذات مهارات رفيعة المستوى، لذلك يقلل هذا النوع من الترويج التقليدي فرص جذب الاستثمارات المتدفقة إلى البلدان التي تنمو بمعدل أسرع، وتنعم بالحوكمة الرشيدة، وحقوق الملكية، والترويج الذكي والحقيقي للفرص الاستثمارية.  انحراف الاستثمارات الأجنبية المباشرة عن التدفق إلى بلد ما يدل على وجود عوائق مالية وهيكلية وتشريعية وعمالية ومجتمعية فيه، مما يستدعي دراسة كيفية التغلب عليها، بدل التغني بالاستقرار على أهميته، والقوانين الاستثمارية على ضرورتها، والوفرة النسبية للعمالة على حاجتها، لأنها غير فاعلة لوحدها على أرض الاستثمار الفعلية.