الخبز المحترق

  في نهايات الحرب العالمية الثانية تقريبا في مثل هذه الأيام من نهايات شهر مارس استدعى الإمبراطور الياباني أحد أكثر الضباط انتماء وكفاءة وطلب منه أخذ مجموعة من الجنود والذهاب بهم إلى جزر الفلبين وذلك لكونها تعتبر طريقا للقوات الأمريكية إلى اليابان، وطلب منه تأخيرهم قدر المستطاع وإنزال أشد الخسائر في صفوفهم، قَبِل الملازم هيرو أنودا المهمة وعرف أنها مهمة انتحارية وأنه لن يعود هو أو أحد من جنوده سالما لكنه يؤمن بخدمة الإمبراطور والتضحية لأجل المبادئ والقيم التي يؤمن بها. وفعلا ذهب أنودا مع جنوده إلى الفلبين ومع أول إنزال للقوات الأمريكية بكثافة أعدادهم وعدتهم العسكرية تم سحق القوة اليابانية بالكامل وتم قتل كل من فيها مما اضطر القائد أنودا إلى الانسحاب مع مجموعة صغيرة مكونة من أقل من عشرين فردا إلى الغابات والأدغال داخل الجزيرة وأخذ يشن هجمات موجعة على القوات الأمريكية ويعود إلى الأدغال، وبقي كذلك إلى سبتمبر من نفس العام 1944، حيث انتهت الحرب العالمية واستسلمت اليابان بعد القنابل الذرية التي ألقيت عليها. ولكن صديقنا المحارب لم يتوقف عن القتال مع خسارته لكل أصدقائه في السلاح إلا أنه استمر بعدها سنوات بالقتال فقامت القوات الأمريكية بالتعاون مع اليابانية بعمل دوريات وإلقاء مناشير مكتوب عليها أن الحرب انتهت ولكن بقي أنودا مُصِرا على أن هذه خدعة واستمر في إنزال الخسائر بكل من الأمريكان واليابانيين المشتركين معهم، وبعد سنوات خرجت القوات الأمريكية واليابانية ولكنه استمر بمهاجمة الفلاحين الفلبينيين معتقداً أنهم يخدعونه وأن الحرب لم تنتهِ، ليس ذلك فقط فقد استمر صديقنا أنودا مدة ثلاثين عاماً بعد انتهاء الحرب وهو يقاتل مؤمنا بمبدأ الولاء للإمبراطور وللقيم التي عاش عليها.   وشاهد القول هنا أنه كان سعيداً بحياته المزرية في أدغال الفلبين، حيث يأكل الحشرات وينام في العراء ويتعرض للقتل في كل يوم علما بأنه لم يكن مضطراً لذلك، فقط لأنه اختار أن يحب تلك القيمة التي أصبحت معيار السعادة والإنجاز في حياته.   فإذا افترضنا أن أحدا منا ذهب في رحلة إلى البر وقام بتحضير طعامه بنفسه وعند إعداد الخبز ولقلة خبرته أحرقه فإنه يأكل خبزه المحترق وهو في غاية السعادة لأنه هو من وضع القيمة والمعيار لما يجعله سعيداً، بينما أن نفس الرغيف المحترق سيكون مصدر تعاسة وحزن إذا كان نفس الرجل فقيرا معدما وهذا الرغيف هو قدره المحتوم. إننا نضع لأنفسنا معايير تتحكم بمدى اعتبارنا أمام أنفسنا ناجحين أم فاشلين ليس لشيء ولكن فقط لمعيارنا الشخصي الذي لا يمكن إلا أن يكون نسبياً، فلا هو صحيح مسلم ولا خطأ مقطوع، لذلك فلنرأف بأنفسنا قليلاً. أما عودنا على صديقنا البطل فقد عاد أخيراً إلى اليابان بعد ثلاثين عاما من انتهاء الحرب التي لم تتوقف يوما بالنسبة له ليستقبل استقبال الأبطال ولكنه مع الأسف لم يجد تلك القيم التي دافع عنها، فلم يستطع أن يجلس في اليابان فغادرها ليعيش ويموت في البرازيل، وأنا أتساءل هل ندم أم لا على ما قام به في حياته؟.