الاقتصاد.. ما خفِيَ أعظم

في أيامنا هذه غالباً ما يواجه الناس مشاكلهم باستخدام التطبيقات، معتمدين في ذلك على تكنولوجيا الاتصالات التي أصبحت واحدة من اهم طرق الاتصال بالآخرين، بل حتى وتحديد مدى مهاراتهم وتقييماتهم في حسن تنفيذ أعمالهم، وهو ما يجعلنا نواجه أي عطل أو مشكلة تحتاج إلى صيانة بالاتصال بالعامل، الذي سيقوم بإصلاحها بشكل مباشر ودون الحاجة للتواصل مع أي شركة أو مؤسسة، كذلك فإننا وفي بعض الأحيان قد نستوقف سيارة في الطريق ونطلب منها توصيلنا لمكان معين مقابل مبلغ مُتفق عليه ودون السؤال حتى عن اسمه أو مكان عمله، أيضا وأيضا فإن عملية نقل البضائع أو المفروشات من مكان إلى آخر تتطلب في هذه الأيام استحضار مجموعة من العمال إما عبر الاتصال أو حتى إحضارهم بشكل شخصي عبر التجول في السوق، وبالتالي الاتفاق الشفهي المباشر معهم وإن كانوا لا يحملون ترخيصا للعمل، فالأهم هنا هو السرعة بالإنجاز والتوفير في التكاليف، وغير هذا الكثير والكثير، وهو ما يفتح الباب بشكل كبير أمام سؤال مهم جدا، هل تُمثِّل هذه الأعمال جزءا من الناتج القومي المحلي؟ وهل يتم احتسابها ضمن الحركة الاقتصادية التي نعرفها؟ أم أنها تٌعتبر جزءا من اقتصاد آخر؟ وان كان كذلك، فما هذا الاقتصاد وما أنواعه؟. بداية ومن الناحية العامة فإن الاقتصاد بمفهومه الشامل والبسيط هو النشاط البشري الذي يشمل إنتاج وتوزيع وتبادل واستهلاك السلع والخدمات، وبالتالي ومن هذا المنطلق فإن أي نشاط أو عمل أو خدمة تتم هي فعليا جزء من مكونات الاقتصاد العام، أما من الناحية التطبيقية والرسمية فإنه لابد من تسجيل العمل وإثبات قيمته ضمن السجلات الرسمية ليكون جزءا من الاقتصاد المكتوب أو المُصرّح به للدولة، وبالتالي فإن جلب عامل والاتفاق الشخصي معه ليقوم بتنفيذ أعمال مُعيّنة دون التصريح بذلك لا يُعتبر جزءا من هذا الناتج القومي الإجمالي، الذي يحتاج إلى فواتير رسمية وأوراق ثبوتية لاحتسابه، وبالتالي فإنه جزء من اقتصاد يحدث بالخفاء ولذلك فإنه لا يدخل ضمن الأرقام الرسمية التي تعلنها الدول، وهو السبب بأن يتم تصنيفه ضمن ما يُسمى بالاقتصاد الأسود أو اقتصاد الظل وهي جميعها مرادفات لمعنى واحد وهو الاقتصاد الخفي. الاقتصاد الخفي وبكل بساطة هو جميع الأنشطة والخدمات الاقتصادية التي يُمارِسها الأفراد أو المؤسسات ولا يتم إثباتها بشكل رسمي، وبالتالي لا تظهر مُكوِّناتها الفعلية وكذلك لا تدخل قيمتها في حسابات الناتج القومي الإجمالي، وبالتالي فهي أيضا لا تخضع للضرائب أو الرسوم ولا حتى للقانون أو الرقابة كونها تتم بالخفاء وبشكل مباشر بين الأطراف ودون تدخّل أي من الأطراف الرسمية في ذلك، وبناء على هذا التعريف وانطلاقا من الشرط الرئيسي للاقتصاد الخفي وهو أن يكون نشاطا مُدّرا للدخل وغير مُسجل ضمن حسابات الدولة وناتجها القومي فإنه يُمكن تقسيمه إلى نوعين: الاقتصاد الخفي المشروع: وهو يشمل المنشآت والأفراد الذين يقدّمون سلعا أو خدمات مشروعة قانونا ولكنها تتم في الخفاء وبعيدا عن أعين الدولة، وذلك غالبا ما يكون إما بهدف التهرب الضريبي أو التهرب من تحمُّل تكاليف وعناء وشروط إصدار التراخيص لممارسة مهنة أو تقديم خدمة مُحددة، ومن أمثلتها عمال الصيانة أو سيارات الأجرة غير المُنتمِين لأي شركة والذين يُنفّذون أعمالهم دون تصريح بل بشكل شخصي. الاقتصاد الخفي غير المشروع: وهو يشمل المنشآت والأفراد الذين يقدِّمون سلعا او خدمات ممنوعة وغير مشروعة في الخفاء وبعيدا عن أعين الدولة، وذلك غالبا ما يكون عبر أنشطة تخالف القانون وغير مسموح بها وهو ما يولِّد دخلا غير مشروع بعيدا عن أعين السُلطة أو الدولة، ومن أمثلتها عمليات التهريب وتجارة المخدرات وغيرها من الأعمال غير القانونية، وبالتالي فإنها وبلا شك لا تُدرج ضمن حسابات الدولة أو ناتجها القومي أو الإجمالي. وهنا يجب الإشارة إلى أن للاقتصاد الخفي الكثير من الآثار السلبية والتي يأتي على رأسها تضليل البيانات الحكومية الرسمية عن طريق إعطاء معلومات غير صحيحة عن المؤشرات الاقتصادية وهو ما يجعل خطط التنمية والإصلاح غير متماشية مع الواقع، كذلك فإنه يساهم في التهرب من دفع الضرائب وبالتالي تقليص إيرادات الدولة وتحجيم قدرتها على تقديم الخدمات العامة وصيانة المرافق، وأخيراً فإن هذا الاقتصاد يُسبّب حدوث خلل في المنظومة الاجتماعية عن طريق تفشي الجرائم وارتفاع أعداد المجرمين وما يتبع ذلك من ارتفاع تكاليف النفقات الأمنية والصحية والتسبب بالضرر المباشر للشركات الرسمية وهوما يخلق جوا من المنافسة غير العادلة وهو ما يضر بقطاع الأعمال الرسمي على المدى الطويل. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي وبالرغم من أن الاقتصاد الخفي هو مرفوض بالمُطلق لكنه وفي بعض الحالات يكون خيارا وحيدا للعاطلين عن العمل أو حتى للمستهلكين الذين لا يستطيعون تحمل نفقات العمل عبر شركات مُسجّلة وعاملة تحت مظلة القانون وهو ما يجعل العمل ضمن منظومة الاقتصاد الخفي هو الخيار الأفضل لهؤلاء المستهلكين أو الباحثين عن الفرص، وبالتالي فإن خلق فرص العمل وتسهيل الولوج لقطاع الأعمال الرسمي وتوفير البدائل الجيدة وتفعيل دور الرقابة وحماية المستهلكين قد يكون هو الحل الأمثل لمواجهة الاقتصاد الخفي ومنعه من الانتشار، وهنا أتذكر مقولة "مالك بن نبي" وهو المفكر الجزائري حين قال "إن القيمة الأولى في نجاح أي مشروع اقتصادي هي الإنسان، ليس الاقتصاد إنشاء بنك وتشييد مصنع، بل هو قبل ذلك تشييد إنسان وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية".