ليس بالضرورة أن ترى أعمالي وليس بالضرورة أن أراك، إن عدم القدرة على رؤية شيء ما لا يعني بالضرورة أنه ليس موجودا وأن عدم سماع صوت ما قطعاً لا يعني أنه لم يصدر، وذلك بكلا المعنيين المادي والمعنوي، على عكس ما جاءت به المدرسة المادية الجدلية والتي كتب فيها كل من هيجل وكارل ماركس وستالين والتي تقول بأن الفكر هو نتاج المادة وأن الوعي هو انعكاس للمادة وليس العكس وأن المادة موجودة بشكل مستقل عن وعي الإنسان بمعنى تسيد البحث العلمي المادي على الفكري والروحي.
لن أطيل في شرح المدرسة المادية وصراعها مع المدرسة المثالية ولكن سأعود إلى المجرة، فهي متناهية في الكبر لدرجة أننا لا نستطيع أن نراها أو نستشعرها بحواسنا التي نثق فيها وبقدرتها المادية على استيعاب واحتواء المحيط، وكذلك الذرة هي صغيرة لتلك الدرجة التي تعجز أعيننا عن رؤيتها، ومع اختلاف الزمان ما كان غير موجود بحكم المنطق أصبح موجودا بحكم التطور، كما أن عدم سماعنا للأمواج فوق الصوتية (الترا ساوند) لا يعني عدم وجودها، ولكن يعكس عجزنا عن سماعها.
وعليه يمكن إسقاط ذلك على جوانب حياتنا المادية والاجتماعية والسلوكية والعاطفية، فقد تكون محبة إنسان لآخر أو كرهه له أكبر من أن يراها أو يحسها ولكنها موجودة، كما يمكن أن تشكل إضافة موظف صغير في قسم من الأقسام خاصية نوعية متميزة ومهمة لكنها صغيرة لدرجة أنه لا يمكن ملاحظتها في منشأة كبيرة ولكنها موجودة ومؤثرة.
جعل الله لنا قدرات وإمكانات متفاوتة ومتغيرة حسب الزمان والمكان والأشخاص لحكمة ما، لنعلم أن هناك دائما ما لا نستطيع أن نحيط به علماً وأن عجزنا عن إدراك شيء ما لا يعطينا الحق برفض وجوده أو أثره أو محاربته، وإنما يدفعنا لإمعان النظر أو تغيير طرق البحث، إلا أنني متأكد من أن تعدد المدارس وتعدد زوايا الدراسة سيخرج في كل مرة بنتائج مختلفة الأمر الذي يقود إلى الاختلاف بالقناعات وإن كانت كلها صحيحة وتجريبية، لذا ستبقى هنالك أسرار وستبقى هنالك علوم لم نكتشفها ونسبتها لما نعلمه ستبقى قليلة، كما قال الله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).. الإسراء 85.
وهذا يقود إلى توجه مهم جدا وهو إحداث حالة التوازن بين الواقع المحسوس والتعامل معه وبين الإيمان بالماورائيات والتعايش معها، مما سيؤدي حتماً إلى رفع جودة الحياة والاستمتاع بها مع الإعداد لغيبيات المستقبل والتحضير لها، وإلى أن نلتقي في المستقبل هذه تحية.