23 يوليو... السياسة تقود الاقتصاد

الأرقام هي أكثر كذبات التاريخ صدقا، وبمرور الزمن تتحلل الأحداث وتطفو منها العناوين العريضة محل البحث الشرس والاختلاف العميق.. لتبقى الأرقام الأخيرة شاهدا شبه حقيقيا وربما وحيدا يمكن الاعتماد عليه في تقييم ما جرى... ومن هذا المدخل نطل على ذكرى 23 يوليو 1952 بمصر ونستعرض ماذا فعلته السياسة بالاقتصاد كنموذج مهم قد يجيب على تساؤلات جمة تؤثر فينا وتشغلنا حتى الآن...1 - في 16 نوفمبر 1869 تم افتتاح قناة السويس بموجب امتياز أجنبي لمدة 99 عاما تحصل مصر منه على نحو 15% سنويا من صافى أرباح شركة القناة حتى عصفت الأزمة الاقتصادية بمصر في عام 1875 وتم بيع حصة مصر لبريطانيا 2 - تم تقنين وضع القناة وفقا للقانون الدولي حتى جاء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 26 يوليو 1956 ليعلن تأميم الحكومة المصرية لقناة السويس بعد رفض البنك الدولي تمويل مصر لبناء السد العالي... هنا لنا وقفة تأملية بالأرقام وهي أن مصر وفقا للقانون الدولي ولحسابات الديون كانت ستسترد القناة كاملة بعد 12 عاما فقط!.. وكانت وقتها الدول الخليجية تشهد بدايات عصر النفط وتدفق عوائده وهو ما يسمح مع الوقت والتفاوض باستثمار خليجي عربي في تمويل بناء السد العالي... إلا أن السياسة وقتها مسحت كلا المسارين الاقتصاديين تماما... - 3 تلي خطوة تأميم قناة السويس في عام 1956 ثلاثة حروب طاحنة أغلقت خلالها القناة نحو 17 عاما متقطعة خلال 20 عاما تالية للتأميم بلغت متوسط خسائرها نحو 1.7 مليار دولار سنويا أي نحو 34 مليار دولار حتى عام 1975... بالإضافة لتجميد نحو 100 مليون دولار من الأموال المصرية بالخارج وكذلك التعويضات التي دفعتها مصر لحملة أسهم القناة والتي قدرت بنحو 7.1 مليون دولار وأيضًا قرض تطهير القناة بنحو 8.4 مليون دولار تحصل من زيادة رسوم السفن العابرة... فضلا عن الخسائر البشرية والعسكرية والسياسية التي عصفت بالاقتصاد المصري في تلك الفترة وما زالت آثارها ممتدة حتى الآن...4 - جنت مصر منذ افتتاح القناة عام 1975 حتى منتصف 2017 نحو 101 مليار دولار وبحساب متوسط أسعار صرف الجنيه المصري كل عشر سنوات خلال نصف قرن مضى تكون القيمة الحقيقة التي تحصلت عليها مصر نحو 17.5 مليار دولار فقط... وهذا الرقم مع تغير العوامل من أبرز الإجابات على تعثر الاقتصاد المصري حتى الآن رغم غنى معطياته وموارده... ولا تفوتنا الصورة المعاصرة من تأكل أرباح حملة شهادات اكتتاب قناة السويس في 2014 بفعل تعويم الجنيه المصري في 2016 وما تلاه من تضخم يقترب من 33% سنويا أخيرا... المشهد السابق بكل تفاصيله يؤكد وبقوة أن السياسة هي التي تقود الاقتصاد على الأقل في الدول النامية لصالح منافع الاقتصاد الذي يوجه السياسة غالبا في الدول المتقدمة...