الذوق.. المحرك الحقيقي للتجارة

الاختلاف هو الميزة الأبرز لهذا الكون الكبير الواسع والمليء بذلك الكم الهائل من التناقضات والأمور المختلفة، نهار وليل، صيف وشتاء، ماء ونار وغيرها الكثير والكثير أمور متعاكسة في المعنى متقاربة ومتلازمة في الحقيقة والواقع، فلا الأسود يكون بلا الأبيض ولا السعادة تكون الا من بعد الشقاء، ولا نجوم تسطع دون أن تنطفئ ولا شمس تشرق دون غروب، سُنة الحياة وطبيعتها كما خلقها الله وكما أراد لها ان تكون، حياة صاخبة ممتلئة بكل ما يمكن ان نفكر به من تفاصيل صغيرة تحمل بين زواياها مواصفات تجعل من الأشياء أضداد أو تحولها نفسها الى سلع وبضائع متطابقة، فالتمايز قد يكون بالجودة او بالمظهر او حتى بالتصميم، وأحيانا باللون والمواد المستخدمة بالتصنيع، أما التطابق فلا يكون إلا بكل شيء، معادلة غريبة جعلت الاختلاف هو القاعدة والتطابق هو الشاذ، وهو نفسه السبب الأساسي والرئيسي الذي ساعد الناس على تلبية حاجاتهم المتنوعة، فلكل منهم رغبته وحاجاته ولكل منهم ذوقه واختياراته، فها هي تلك السيدة تبحث عن ثوب أسود طويل حديث وعصري، وها هي صديقتها تشتري ثوبا مختلفا لونه أبيض وتصميمه رسمي، كلاهما من نفس المنطقة وكلاهما واجه نفس العادات والتقاليد ولكن لكل منهم ذوقه الخاص وتفضيلاته الشخصية، هذا الاختلاف والتمايز هو السمة الأهم لبني البشر وهو أيضا الشرط الأساسي والضروري للتجارة والأسواق، فلا يمكن للمنتجين ان يقدموا سلعا متطابقة ولا يمكن للمشترين أن يستمروا باستهلاك نفس المنتجات، فالحاجات تتغير والرغبات تتبدل والأذواق لا تقف عند نفس المكان، نعم انها طبيعة جميلة عاشت معنا وكبرت بيننا حتى أخذتنا بيديها للمقولة التسويقية التاريخية "لولا اختلاف الأذواق، لبارت السلع"، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي الأذواق؟ ولماذا تختلف؟ وما تأثير هذ الاختلاف على الاقتصاد والاعمال؟ وهل يمكن ترويض التباين في الاذواق للوصول الى نفس الحاجات والاختيارات من السلع لدى الفئة الاغلب من الناس؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان المعنى الحرفي لكلمة ذوق يختلف عن المعنى التجاري المقصود به في عالم الاعمال، فمن حيث العموم فإن الذوق يعني احترام الإنسان لكل من حوله بحيث يقوم بالتصرف أو التحدث بشكل لائق وببالغ الاحترام والأدب تجاه الآخرين، وبالتالي فهو التصرفات والتعاملات التي يتم عبرها مراعاة سلوك وتصرف الشخص مع من حوله سواء بالفعل أو بالقول، أو حتى في الملبس، بحيث الا يسبب لهم أي نوع من الازعاج او الامتعاض، اما من الناحية التجارية فالذوق هو التفضيلات والاختيارات التي قد يرغب المشتري باختيارها وانتقائها في السلع والخدمات التي يرغب بشرائها او استخدامها، فمثلا عندما يقوم شخص بشراء سيارة من فئة "مرسيدس" فهو يكون فعليا قد اختار شكلا وتصميما ولونا وحتى مواصفات معينة تبدأ أولا من ذوقه باختيار ما يحب من ألوان وأشكال ومواد أولية وتستمر كذلك عبر التأثر بظروفه المادية ومحيطه القريب منه وغيرها من الأمور، فالسلعة الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة الامريكية قد لا تكون على لائحة المطلوبات أساسا في الصين او تايوان، والمصانع التي تبيع الاخشاب برواج في البرازيل قد تقف مكتوفة اليدين في أوروبا حيث يفضل الناس الزجاج والحديد، تغيرات كثيرة يكون أساسها الظروف الطبيعية المحيطة والقدرات المادية للشعوب والأهم هو شخصيات وطريقة تفكير الناس، وهو امر طبيعي بل ضروري لرسم لوحة جميلة متباينة تحمل كل الألوان والأشكال، وهنا يجب التنويه بأن كثير من الفلاسفة مثل أفلاطون وهيوم اهتموا بالجمال والذوق الجمالي كأحد المواضيع الأساسية في الفلسفة والعلوم الإنسانية، ولاحقا ومع بدايات القرن السابع عشر أصبحت هذه المسألة موضع إشكال في سياقها الاجتماعي، فقام المعجم الفلسفي بإدراج مصطلح "Aesthetics" أو "اتيكيت" وهو التعبير المأخوذ عن اليونانية والذي يعني حرفيًّا "علم الجَمال" أو "علم التذوق الفني" والذي يُعنى بدراسة الجمال والتذوق، أما في القرن الثامن عشر فقد غيّر الفيلسوف الألماني "ألكسندر بومجارتن" المعنى الى مصطلح جديد وهو إشباع الحواس أو الإحساس بالبهجة، أما حاليا فإن الفكرة السائدة لدى الكثيرين تدور حول أن الذوق هو ليس ملَكة فطرية عند الإنسان بل هو شيء يتكون نتيجة لوسطه الاجتماعي المحيط وظروفه المادية والاجتماعية، فالعامل الاقتصادي بالنسبة للبعض له دور كبير في تحديد الذوق الفردي كونه هو ما يحدد موقع هذا الفرد داخل السلم الاجتماعي والثقافي في مجتمعه بل وهو أيضا ما يضعه داخل ذلك الصندوق الواسع من الخيارات التي تمتد حدودها وأعدادها حسب حدود قدرته المالية والمادية، وهو الامر الأساسي والرئيسي في عملية التجارة والتبادلات التجارية فالتاجر الذكي هو الذي يستطيع أن يوفر لكل زبون حاجاته ضمن حدود قدراته المادية على ان تكون هذه المنتجات ضمن خيارات ذوقه العام. واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن اختلاف الأذواق وتباينها هو ميزة مهمة لدينا نحن البشر، وهي طبيعة بشرية تقوم في أساسها على الإحساس الشخصي وعلى القدرة على التعبير، فنحن وفي طريق بحثنا عن سلعة أو منتج معين غالبا ما نواجه العديد من الخيارات التي وان كانت هي الأمثل لشخص آخر الا أنها ليست مهمة بالنسبة لنا، وهو ما يجعل من الأسواق مكانا يجمع جميع التجار والبائعين الذين يسعون لتغيير أذواق الناس في لحظة الشراء، فالهدف هو ان يشعر هذا المشتري ولو للحظة واحدة بأن هذه السلعة التي يراها هي السلعة الافضل وهي فعلا ما يناسب ذوقه واحتياجاته، وهنا أستذكر مقولة "جلال أمين" الاقتصادي المصري الذي يقول "الطلب يخلق العرض، والذوق المختلف يخلق الإنتاج المتنوع".