قد يكون صندوق النقد الدولي الحاكم الاقتصادي العام في دول العالم النامي، ومنها الدول العربية التي خبر معظمها وصفاته على مدار العقود الماضية وحتى الآن، بعنوان تحرير الاقتصاد، من خلال الإصلاحات الهيكلية، كرفع الدعم عن السلع الأساسية، وتخفيض سعر صرف العملة، بدعوى زيادة الصادرات التي يصبح سعرها أقل وتقليل الواردات التي يصبح سعرها أعلى، وتحجيم القطاع العام، والحد من التدخل الحكومي في الاقتصاد، والخصخصة، وزيادة الضرائب، والتقشف بتقليل الإنفاق الحكومي، لكن دون نجاح يعتد به، إن بتقليل الفجوة التاريخية بين معدلات الاستثمار والادخار، أو الحد من العجز المزمن في الموازنات العامة، أو في الميزان التجاري، أوميزان المدفوعات، أو تحميل الفئات «رقيقة الحال» وأصحاب الرواتب الثابتة لآثارها السلبية، أو بما توجده من ضغوط تضخمية تؤثر على أسعار الفائدة الحقيقية، وعلى المدخرين. لكن ما الأسباب التي تجعل تلك الوصفات واحدة تقريبا لكل الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية ومالية، حتى أنها تكون أحيانا نسخا كربونية عن بعضها، وتؤدي إلى نفس النتائج السلبية عند تطبيقها بجنوحها نحو توطين الليبرالية الاقتصادية، في مجتمعات لم يخرج بعضها من ثقافة وآلية عصر الزراعة؟ هذا يقود لثلاثة استنتاجات، فإما أن مشاكل الدول وأمراضها الاقتصادية التي تستدعي تدخل الطبيب الاقتصادي الدولي صندوق النقد - وعند الحاجة زميله البنك الدولي- تكاد أن تكون هي نفسها دائما، ما يعني أن هذه الاقتصاديات تدور في حلقة مفرغة من الإنعاش والتصحيح غير المجدي، وإما أن الصندوق لديه سياسة اقتصادية محددة يرغب بتطبيقها بغض النظر عن أمراض الاقتصاديات المختلفة أو ظروفها واحتياجاتها، وعليها الأخذ بوصفاته العالمية، ما يفسر مسارعة الدول الخاضعة لبرامج التصحيح للانضمام لمنظمة التجارة العالمية، مع كل شروطها المجحفة، خاصة تجاه الدول المريضة اقتصاديا، وهي تفتح أسواقها على العالم الخارجي دون حماية، أو أن الصندوق، كما الحكومات، غير آبه بما ستؤول إليه نتائج تلك الوصفات أوالعمل بها، ما دام هناك من يأمر، وهناك من ينفذ. فإذا صح أي من هذه الاستنتاجات فإن اقتصاديات الدول الخاضعة لوصفات الصندوق ستظل أسيرة لبرامجه، ما يعني أنها لن تستطيع تحقيق أي إنجاز بدونه، ولن تتمكن من التعافي بعيداً عنه، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالأردن بدأ برنامجا للتصحيح الاقتصادي منذ العام 1989، حقق خلاله بعض التقدم لكن على حساب شد الأحزمة على البطون المستمر حتى الآن، وبعد الإعلان عن التخرج من هذا البرنامج في 2004، عاد الأردن ثانية إليه عبر برنامج للتصحيح الاقتصادي على امتداد الأعوام 2012 وحتى 2015، وهو بصدد برنامج جديد مدته ثلاث سنوات أيضا، دون أن تكبح تلك البرامج الزيادة الهائلة في المديونية التي تقارب 35 مليار دولار، وتشكل 90% من الناتج المحلي الإجمالي، أو تحسن معدل النمو الاقتصادي الذي بلغت نسبته في العام 2015 حوالي 2.6%، أو تطور مستوى المعيشة، أو تؤثر على معدل البطالة الذي يزيد على 13%، أوالفقر الذي يزيد على 14%، وهذا العراق المنهار اقتصاديا تحت وطأة برامج الصندوق المتحكم بكل شاردة مالية، وواردة اقتصادية، وقطرة نفطية فيه، واليونان...إلخ. التقدم الوحيد الذي أحرزه الصندوق مراعاته الحساسية الوطنية في علاقته مع الدول، بتركه الحكومات لتصوغ برامجها الاقتصادية معه عوضا عنه، مع بقاء الوصفات واحدة في الحالتين، فالسياسات التي تعلنها الحكومات باعتبارها برامج وطنية للتصحيح الاقتصادي، وترسل بها للصندوق كخطابات نوايا اقتصادية مدعية أنها هي التي صممتها، تكون في الواقع شروط الصندوق كما هي في الغرف المغلقة، ولا يهم حينها إن قدمته لمواطنيها كالتزام وطني للاعتماد على الذات، وليس استجابة لمطالب الصندوق. ومع كل تدخل للصندوق فإن القاسم المشترك الأعظم الفساد المالي والإداري، وهيمنة الرأسمالية المحلية غير المقيدة، وضياع الأصول بالخصخصة أو بالبيع، واستمرار ارتفاع تكاليف الحياة، وانخفاض إنتاجية الاقتصاد، وزيادة المديونية، والأهم إدمان الاعتماد على الهبات والمساعدات والمنح، وما يشكله ذلك من ارتهان للمانح والمساعِد، مما يجعل سياسات الدول التي تحظى بالرعاية الصندوقية بلا طعم ولا رائحة ولا لون.