بنك كريدي سويس... مارد يبحث عن الفانوس

البنوك، تلك المؤسسات المالية التي تحمل بين خفاياها اقتصاد الدول ومُدّخرات سنوات طويلة لشعوب كافحت وعملت في جميع المِهن والوظائف، هو ذلك الوِعاء الأخير الذي تصُب فيه جميع أموال الأفراد والمؤسسات سواء كانت حكومية أو غير حكومية، فالبنوك وهي تلك المؤسسات المالية المرخَّصة التي يتم تنظيمها من قِبل الحكومة أو البنك المركزي لتقوم بتقديم خدمات مالية للشركات والمُستهلكين، كإدارة الثروات، وصرف العملات، وقبول الودائع وتقديم القروض وخصم الأوراق التجارية وتحصيلها وفتح الاعتمادات المستندية، وغيرها من الخدمات المالية والتجارية والتي أصبحت اليوم بندا أساسيا لأي عمل تجاري أو نشاط اقتصادي تقوم به الشركات أو المنظمات والدول، فالمُعاملات المالية البنكية باتت في يومنا هذا عصب التجارة وشريان الحياة الأساسي الذي لا يُمكِن الاستغناء عنه، فمن مِنا لا يملك حسابا مصرفيا ومن مِنا لا يتجول في الأسواق مُتسلحا ببطاقات الدفع والاقتراض التي تُحوِّل وفي لحظات أحلامه إلى حقيقة بين يديه، أما بالنسبة للشركات وخاصة التي تعمل منها في أرجاء هذا العالم الكبير، فمِما لا شك فيه أن أعمالها التجارية أصبحت في أيامنا الحالية مُرتبطة بقُدراتها وتسهيلاتِها البنكية أكثر من ارتباطها بسابقة أعمالها وخبراتها، فملاءة الشركة المالية وقُدرتِها على السداد تحوّلت بِقُدرة قادِر إلى العامل الأول والأهم في جميع الاتفاقيات التجارية والاقتصادية، وهو ما جعل البنوك والمصارف هي الجهة الأكبر والأهم في اقتصاد جميع الدول، فالاقتصاد الأمريكي الكبير يقبع خلفه مجموعة كبيرة من البنوك والمصارف التي تعطي الأموال وتُسهِّل عمليات التجارة والتبادل، كل هذه المُعطيات والحقائق التي باتت مُسلّمات مالية واقتصادية جعلت من سقوط البنوك في أي مكان في العالم، حدثا غير اعتيادي يُؤثِّر على الدول وقد يُغيِّر الحكومات، فما بالك إن كان هذا السقوط لأحد أشهر البنوك في العالم، نعم إنه البنك الشهير "كريدي سويس" نجم البنوك السويسرية سابقا ورمز لتِلك البقرة التي سقطت فكثُر ذابحوها حاليا، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هو بنك "كريدي سويس"؟ وما هي أهميته وحجمه؟ وما هي قصته وأسباب سقوطه الأخير؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة أن بنك "كريدي سويس" هو مصرف سويسري يقع مقره الرئيسي في زيورخ وهو مصرف تقليدي يُقدِّم العديد من الخدمات المالية، يبلغ من العُمر 167 عاما حيث تأسّس عام 1856 ميلادي، على يد السياسي ورائد الأعمال والمصرفي السويسري الشهير " ألفرد إيشر"، ومن الناحية التنظيمية فهو يُعد واحدًا من أهم 30 بنكا في العالم، كما أنه الأضخم في سويسرا من ناحية إجمالي حجم الأصول، عِلما بأن مجموعة "كريدي سويس" تُعرِّف نفسها بأنها بنك استثماري ومؤسسة مالية رائدة، تُقدم نصائح مالية لعملائها في شتى جوانب الاقتصاد في كل مكان بالعالم وعلى مدار الـ24 ساعة، أما أهم المنافسين للبنك فهي بنوك "يو أس بي" "وميريل لينش" و"مورجان ستانلي" و"سيتي بنك" حيث تُقدِّم هذه البنوك جميعها خدمات مشابهة لخدمات بنك "كريدي سويس"، هذا ويستحوذ بنك كريدي سويس على مجموعة "وينتر ثور" و"فولكس بنك" السويسري وشركة الأوراق المالية السويسرية الأمريكية وبنك "ليو" كما أن لديه عددا من الموظفين يزيد على 50,000 موظف بالإضافة إلى 1.3 تريليون فرنك سويسري في محفظة الأصول الخاضعة لإدارته في نهاية عام 2022 وذلك انخفاضاً من 1.6 تريليون فرنك في العام السابق، ومع أكثر من 150 مكتباً في حوالي 50 دولة أصبح بنك "كريدي سويس" هو البنك الخاص لعدد كبير من رواد الأعمال والأثرياء والشركات حول العالم، وهي جميعها الأمور التي تجعل من سقوط أو إفلاس البنك عملية مُعقّدة وصعبة تُلقي بظلالها على جميع الأسواق المالية العالمية، بل على كُل القطاع البنكي والمصرفي في كل من القارة العجوز والعالم. أما بالحديث عما حدث للبنك مؤخرا، فهنا يجب التنويه إلى أن البنك كان قد عانى طوال السنوات الأخيرة من سلسلة أحداث متتالية هزَّته وامتحنت قدرته على الصمود، حيث بدأ البنك ببيع أسهمه عام 2021 وذلك بعد خسائره نتيجة تدهور قيمة الاستثمارات في شركة "غرينسيل كابيتال" وصندوق "أرشيغوش كابيتال"، وفي مطلع عام 2022 ضربت البنك قضية أخرى تعلقت بخرقه لإجراءات السلامة التي فرضت خلال جائحة كورونا، بعد ذلك تم تعيين "أولريش كورنر" كمدير عام للبنك لكن محاولاته لإصلاح الأوضاع من خلال خطة لإعادة هيكلة البنك على مدار ثلاث سنوات باءت بالفشل، وهو ما ساعد في انتشار شائعات عن قُرب انهيار البنك والتي بدورها أدت إلى إحجام المستثمرين وتوجههم إلى بنوك أخرى حيث سحب عملاء البنك 110 ملايين فرانك سويسري أي ما يُعادل 119 مليون دولار أمريكي، في الربع الرابع وحده من العام، وهو ما ساهم في تسجيل البنك لأكبر خسارة سنوية له منذ الأزمة المالية وهي التي بلغت 7.29 مليار فرنك سويسري، كذلك فقد كشف البنك مؤخرا أن ودائع تقدر بقيمة 10 مليارات فرانك سويسري سحبت في يوم واحد في مارس من العام الحالي 2023 وذلك بعد انتشار الأزمة التي نتجت عن انهيار بنك "سيليكون فالي" والتي تحولت إلى الضربة القاصمة بالنسبة لبنك "كريدي سويس" حيث إنها كانت سببا رئيسيا في نشر حالة من الهلع والخوف بين المودعين والمستثمرين وهو ما كان كفيلا بوضع البنك في حالة أقرب إلى التعثر والإفلاس بعد الطلب الكبير على سحب الودائع والأموال. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن النظام المصرفي في العالم بات اليوم أمام امتحان حقيقي، فهو بحاجة ماسّة إلى تطوير أنظمة الرقابة والمتابعة المصرفية، فالتحديات باتت كثيرة والتطور السريع في التكنولوجيا بالإضافة للتغيرات التي باتت تمر بشكل دائم على قطاع الأعمال جعلت من الاستثمارات والمشاريع أدوات قابلة للتغير في أي لحظة وهو ما يستوجب رفع مستوى التحوط والحذر إلى درجات قصوى تتلاقى مع طموح المودعين والمستثمرين، وهنا أستذكر مقولة "مايكل هدسون" الذي يقول "يدار الاقتصاد في المقام الأول من قبل البنوك لمصلحتها الخاصة".