يوم الجمعة الأسود.. وأسواق المال

يوم جميل ينتظره الملايين من الناس في الولايات المُتحدة الأمريكية وحول العالم، فرص شرائية قد لا تكرر قبل عام، وهو ما يقسِم الناس الى مجموعتين فالبعض منهم يتسمّرُون خلف حواسيبهم الذكية ويتنقّلون بين مواقع البيع والشراء الإلكترونية بحثا عن أفضل الأسعار، أما البعض الآخر فيقضي وقته امام بوابات العبور لدخول متاجر يراها كل يوم من بعيد ويخاف أن يرتادها، فنراه اليوم واقفا أمامها يعُدُّ الدقائق والساعات وهو يطمح بتحقيق البعض من أحلامه المادية عسى ان يكون من أوائل المستفيدين عند ساعة الصفر، نعم هي لحظة حاسمة تُفتح بها أبواب المحال التجارية لتستقبل المشترين الذين يبحثون عن بضائع تتسابق اليها اياد كثيرة " فمن سبق لبق " أو بالعامية اللُبنانية " من سبق شمّ الحبق"، كُلهم يريد شراء كل ما يستطيع، كيف لا وهو يوم " الجمعة السوداء" او ما يُسمى "Black Friday" فهو يوم تعرِض فيه المحال بضائعها بأسعار خاصة وبخصومات غير مسبوقة تفوق في كثير من الأحيان الـ 90%، وهي عادة درجت منذ سنوات طويلة في أسواق الولايات المُتحدة الامريكية وانتقلت منها الى مُعظم الأسواق والدول ولو بأسماء مُختلفة، فسُميت في بعض الدول العربية مثلا باسم " الجمعة البيضاء"، من حيث التوقيت هو يوم الجمعة الذي يأتي مباشرة بعد يوم "عيد الشكر" وهو عيد يحتفل به سكان الولايات المتحدة الأمريكية في الخميس الرابع من شهر نوفمبر من كل عام، حيث يُعتبر هذا اليوم بداية موسم شراء هدايا يوم "عيد الميلاد"، ففي هذا اليوم تقوم أغلب المتاجر بتقديم عروض وخصومات كبيرة آملين بأن تكون بداية موسم بيع غير مسبوق لهم، خاصة ان أعدادًا كبيرة من المستهلكين يتجمهرون منذ ساعات الفجر الأولى لهذا اليوم خارج المتاجر الكبيرة مُنتظرين افتتاحها، على امل أن يحصل كل منهم على النصيب الأكبر من البضائع المخفضة الثمن، فهي غالبا ما تكون مُحدَّدة الكمية، وهو ما نراه في كثير من السلع المعروضة في بعض متاجر الإنترنت مثل موقع "أمازون" مثلا، حيث يقومون بتقديم خصومات خاصة على كمية مُعينة من بعض المنتجات، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي أصل هذه التسمية؟ وما هو الهدف من هذا اليوم؟ وهل يمكن تطبيقه على جميع الأسواق؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان أصل التسمية له مدلول خاص في التجارة والمُحاسبة، حيث انه كان من المُرجح مُحاسبيا في ذلك الوقت استخدام الحبر الأسود لتسجيل الأرباح، بينما كان يتم استخدام اللون الأحمر لتسجيل الخسائر في الدفاتر المُحاسبية خاصة في حال الكساد ورُكود العمل، ونظرا للإقبال الشديد في هذا اليوم وكنتيجة لتحقيق أرباح كبيرة فقد كانت تمتلئ الدفاتر باللون الأسود وهو سبب تسميته بالجمعة السوداء، هذا وتعود بداية تطبيق يوم "الجمعة السوداء" من وجهة نظر البعض إلى القرن التاسع عشر، وتحديدا للأزمة المالية عام 1869 في الولايات المتحدة التي شكّلت ضربة كبيرة للاقتصاد الأمريكي في ذلك الوقت، فكسدت البضائع وتوقفت حركات البيع والشراء مما تسبّب بكارثة اقتصادية كبرى تعافت منها الولايات المتحدة عن طريق عدة إجراءات منها إجراء تخفيضات كبرى على السلع والمنتجات لتسريع عملية بيعها بدلا من كسادها، وهو ما ساهم في تقليل الخسائر قدر المستطاع على التُجّار، ومنذ ذلك اليوم اعتادت كبرى المتاجر والمحال والوكالات بأن تقوم في هذا اليوم بإجراء تخفيضات خاصة ومُميزة على مُنتجاتِها قبل أن تعود لاحقا إلى سعرها الطبيعي. ومما هو جدير بالذكر انه وبناء للتقدم التكنولوجي الكبير وبسبب سهولة وسرعة الاتصال الحديثة وهو ما جعل الوصول الى أي من أسواق العالم يحتاج لعدة دقائق فقط، فقد باتت كثير من الأسواق في العالم تقوم بالمُشاركة في هذا الحدث في محاولة لمجاراة الأسواق والاستفادة من حمى الشراء العالمية وفي محاولة منها لوقف التمدد الزاحف من الخارج نحو نصيبها من الأسواق الداخلية، فشراء كثير من السلع بات أسهل وأسرع حتى أرخص إذا تمّ عبر مواقع الكترونية تبعد عنا الاف الكيلو مترات، وهو ما جعل يوم الخصم الكبير تقليدا تقوم به معظم متاجر العالم وأسواقها، عِلما بأن لكل سوق طبيعته ولكل دولة أو منطقة جغرافية ميزاتها وخصائصها، وهنا يجب التنويه أن بعض السلع لا تكون ضمن المنتجات الخاصة بالخصومات في هذا اليوم فعلى سبيل المثال أسواق بيع السيارات لا تخضع لقوانينه وأسعاره. من هنا ومن هذا المبدأ وفي نظرتي للأسواق وجدت اننا وبنظرة تحليلية سريعة على أسواق المال في العالم فإننا نلاحظ تناقضا غريبا بين أداء المتداولين في هذه الأسواق وبين أدائهم أنفسهم في أسواق السلع والخدمات الأخرى، فسوق المال يكاد يكون هو السوق الوحيد الذي يقوم الناس فيه بالبيع عند هبوط الاسعار والاندفاع للشراء عند ارتفاعها في حين انه وبناء على أساسيات الأسواق والتجارة السابقة فإن ما يجب القيام به هو العكس تماما، وهنا يأتي دور ما يشعر به المُستثمر فالخوف من استمرار الهبوط والطمع باقتناص أسعار أفضل هو ما يفصِل بين المُستثمر والمُشتري، وهو أيضا ما يُثبت أنه وحتى فرق عمل ومراقبة أكبر وأهم المستثمرين من طويلي الأمد غالبا ما يُفكِّرون ولو للحظات بطريقة مُضاربيه بحتة، نعم إنها طبيعة الأسهم التي تنقُلها لكل متداوليها. واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن معرفة هدف الشراء ودراسة التحليل الأساسي للأسهم والتعمق في توقعات أعمالها المُستقبلية هو عمل أساسي يجب القيام به في حالات الهبوط والانخفاضات القاسية، فالأزمات تصنع الثروات لمن هو مُستعِد لها، لذا فان القرار العقلاني في حال هبوط الاسعار في الشركات المعروفة ذات القوة والملاءة المالية هو ان يتم اعتبارها "جمعة سوداء" وفرصة تخفيضات لأسعار مثالية للشراء على ان يكون ذلك مبنيا على دراسات وتحاليل، وهنا أستذكر مقولة "وارن بافيت" حين قال " سواء كنا نتحدث عن الجوارب أو الأسهم، فإنني أحب شراء سلع ذات جودة عندما تكون هناك عروض وتخفيضات على الأسعار".