تناست بريطانيا - كما غيرها - وحدتها الداخلية، وهي تستغل العولمة، وتستثمر حضورها في الاتحاد الأوروبي، لتحسين صورتها الاقتصادية الخارجية، فكادت أسكتلندا أن تغادرها وقد تفعل، كما تناست مواطنيها فتحول كثير منهم إلى عاطلين عن العمل، وهي المنتشية بالوظائف التي يحصل عليها البريطانيون في الاتحاد الأوروبي، وحوالات هؤلاء «المغتربين البريطانيين»، وتناست فقراءها فلم تهتم كثيرا بتحسين ظروف معيشتهم، باختصار لم تبالِ بما يمور تحت السطح من متغيرات تعاكس ما يدور فوقه، فالفقر يزداد في دولة تقدم نفسها على أنها دولة الرفاه الاجتماعي، والبطالة ترتفع خاصة بين الفئات التي تواجه منافسة من المهاجرين، ومشكلة المسنين الذين يزداد عددهم تتفاقم وهم يشعرون بخطر تجميد الحكومة للإعانات لصالح خفض العجز في موازنتها. لتصحو هي وأوروبا والعالم على وقع أصواتهم وهم يرفضون الاتحاد الأوروبي عديم الفائدة بالنسبة لهم، ولأنه ليس أكثر من جسر للمهاجرين للعبور والإقامة في بريطانيا، ويتبرأون من العولمة بشكلها الرأسمالي الجامح الذي يعني أن يظل الفقير فقيرا، والعاطل عن العمل عاطلا، فكان الاحتجاج بالانكفاء وراء جدار من العزلة، والمفارقة أن رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر هي التي دعت لهدم جدار برلين الذي يعزل أوروبا عن بعضها، لتكون النتيجة أن البريطانيين هم أول من يعيد بناء جدار العزلة بينهم وبين أوروبا. فقد أظهرت نتائج استفتاء “Brexit" الذي صوت عليه سكان المملكة المتحدة (84% منهم في إنجلترا، 8% في أسكتلندا، 5% في ويلز، وحوالي 3% في أيرلندا الشمالية) حجم الانقسام العمودي والأفقي والديمغرافي والمناطقي بينهم، فإنجلترا وويلز والمناطق الداخلية والأرياف صوتت لصالح الانفصال، وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية والمدن والمقاطعات الكبرى كجبل طارق صوتت لصالح البقاء. وعلى مستوى الأعمار صوت معظم الشباب - من الفئة العمرية (18- 25 عاما) - لصالح البقاء، فيما صوت كبار السن لصالح الانسحاب (عدد الأشخاص الأكبر من 65 عامًا يزيد على 11.5 مليون شخص، أي حوالي 18% من إجمالي عدد السكان). كما صوت كل من العاطلين عن العمل (يتراوح عددهم بين 1.7 مليون إلى 2 مليون)، والفقراء (هناك حوالي 20 مليون شخص يعيشون تحت مستوى خط الفقر) تصويتا مزدوجا ضد كل من العولمة التي جسدتها الوحدة الأوروبية وأدت لتضاعف الأسعار، وتراجع الرواتب، وضد المهاجرين الذين كان لهم نصيب الأسد من الزيادة في عدد السكان، فحوالي 53% من تلك الزيادة كانت بسبب ارتفاع أعدادهم بحسب مكتب الإحصاء البريطاني. لذلك كان الاحتجاج الاجتماعي الناجم عن المعاناة الاقتصادية سببا رئيسيا لتصويت كثيرين للانسحاب، فالعمال البريطانيون، وجدوا أنفسهم في خضم منافسة غير متكافئة أمام العمالة المهاجرة التي تقبل بأقل الأجور، ويفضلها أرباب العمل (معدل أجرة العامل البلغاري في بلده 3.7 يورو لكل ساعة عمل، مقابل حد أدنى في بريطانيا يبلغ 7.5 جنيه إسترليني، أو 9 يورو بسعر الصرف الحالي)، وكبار السن، شعروا بأنهم يواجهون تحديا بالحصول على الخدمات الصحية والاجتماعية مع وقوفهم الطويل في الدور، أو خوفا من استمرار تقلص نفقات الرعاية لهم، مع مزاحمة مهاجرين يتحدثون لغات أخرى لهم على تلك الخدمات، والفقراء يفقدون الأمل مع ازدياد وضعهم سوءا، فقبل ثلاثة عقود كان ما يقارب 50% من الذين كانوا يعيشون على حافة الفقر يجدون صعوبة في تجاوزه، لترتفع هذه النسبة اليوم إلى ما يفوق 65%، وهو ما أوجد حالة من فقدان الأمل، وأظهر كم هو صعب لمن هو في منطقة الفقر أن يغادرها خاصة في ظل العولمة وانفتاح الأسواق وتزايد الأعباء. الدرس البريطاني بالغ الدلالة بنتائجه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلى الجميع أخذ العِبَر منه - وهو ما بدأت به رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة بتأكيدها على الوحدة وهي تزور أسكتلندا، ووزيرة التعليم الجديدة وهي تصرح بأنها خريجة المدارس الحكومية، ومستشاروها هم أساتذتها في الميدان- والنظر إلى المتغيرات في المجتمعات العربية بجدية، ووضع الخطط لمواجهة نتائجها، إذ ليس المهم كم نحن موغلون في العولمة، بل كم نحن ملتصقون بقضايا ومشاكل ومتطلبات شعوبنا التي تعاني صعوبة في الانتقال الأفقي بين أجزاء المجتمع الحضرية، أو الانتقال العامودي على السلم الاجتماعي بين الوظائف والشرائح الاجتماعية، ما يعني أن المجتمع تحول إلى مجتمعات تشعر غالبية المنتمين إليها وكأن المستقبل يسرق منها، وهو ما يجب على الحكومات والخبراء والباحثين والجامعات ومراكز الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية دراسته، ووضع الخطط الإستراتيجية للتعامل معه، ليس فقط اقتصاديا واجتماعيا، وإنما لتلافي تداعياته على وحدة الدول السياسية والجغرافية.