سنغافورة 2/2

في المقال السابق أوضحنا أن القضية الأهم التي شغلت بال المسؤولين في سنغافورة بعد الاستقلال، هي وحدة الشعب والمخاوف من حدوث صراع داخلي، ولذلك فإن أول حكومة تشكلت بعد الانفصال عن ماليزيا حاربت كل أشكال التمييز والعنصرية والفساد، وسنّت قوانين تحرم التعرض للمسائل العرقية والدينية، وجاءت بنظام تتساوى فيه الفرص والتآلف بين الأعراق. ولذلك عبر أحد المسؤولين هناك بالقول: “إنه برغم كل ما يبدو على السطح، فنحن متشابهون إلى حد كبير، لا يهم إذا كنت صينيًا أو هنديًا أو ماليزيًا فكلنا لدينا نفس التطلعات، نحن نريد حياة محترمة ونريد لأطفالنا حياة محترمة لكي ينموا فيها”. ومما ساعد هذا البلد أيضًا على التطور والازدهار وتحقيق معجزته الاقتصادية هو أنه لم يعتمد في نهجه التنموي على إرث عسكري يكون فيه الجيش فوق السياسة والمهيمن على السلطة، ولم يكن المسؤولون السياسيون فوق القانون كما هو الحال في كثير من البلدان النامية. إن حرص السلطة هناك بعد الاستقلال على تحقيق العدالة الاجتماعية وانتهاج النظام الديمقراطي الذي يحترم حقوق المواطن ويضمن ولاءه للوطن، ساعدها كثيرًا على الابتعاد عن مصادر الفساد الإداري والبيئة الملوثة بأمراض الاستبداد والاستعباد والاستبعاد، والتي كانت سببًا لإهدار الثروة وضياع البلد في متاهات السياسة القذرة في بلدان عدة، فلم يكن هناك احتكار في اتخاذ القرارات الإستراتيجية، ولم تكن القرارات الاقتصادية مسيسة تخدم مصالح السلطة الحاكمة ورجال السياسة فقط، كما لم تكن المناصب العليا عبارة عن غنائم توزع على الأقارب والمؤيدين والأتباع كما يحصل في بعض البلدان النامية، فقد وضعت سنغافورة لها رؤية مستقبلية واضحة وأنشأت مؤسسات الرقابة والمساءلة الشعبية لضمان نجاح وفاعلية السياسات والإستراتيجيات التنموية، وحرصت على تعزيز ثقة المجتمع في مُتَّخِذ القرار والنظام القائم، حيث ارتكز النظام السنغافوري على مبدأ الشراكة الفعلية للجميع، والمؤسسات المنتخبة هي التي تقرر متى وكيف تستخدم موارد الدولة. وبهذا النظام استطاعت سنغافورة أن تتجنب الإخفاقات والأزمات السياسية والاقتصادية وكثيرا من المشاكل التي وقعت فيها بلدان سلطوية احتكرت الثروة والقرارات والمناصب الإدارية لفئة معينة. كما اهتمت هذه الجزيرة الصغيرة بشكل خاص بتطوير الكفاءات والخبرات المحلية من خلال تطوير قطاعها التعليمي، الذي يعتبر أحد أرقى أنظمة التعليم في العالم بلا نزاع، فقد أدركت الدولة أنها بلد فقير لا يمتلك من الموارد إلا الإنسان وهو أغلى ما تمتلكه، حيث يمثل رأس مالها الحقيقي الذي يمكن الاعتماد عليه في نهضتها الاقتصادية وتطوير مستقبل البلد ومنافسة الدول الكبار. فقد سعت الدولة في استغلال طاقات شعبها بأفضل شكل ممكن واكتشاف قدراتهم ومواهبهم وتنميتها بالشكل التي تخدم الخطط التنموية، وقد خصصت أكثر من 16% من ميزانيتها العامة على قطاع التعليم. لقد أدرك رئيس الوزراء “لي كوان” دور وأهمية التعليم في لم الأعراق وتلبية متطلبات التنمية الاقتصادية، فيقول: “بعد عدة سنوات في الحكومة، أدركت أنني كلما اخترت أصحاب المواهب كوزراء وإداريين ومهنيين، كانت سياساتنا أكثر فعالية وأكثر نجاح”. اليوم سنغافورة هي واحدة من أسرع الاقتصادات نموا في العالم، وأكثرها استقرارًا سياسيا واقتصاديا، وخامس أغنى دولة في العالم من حيث احتياطي العملة الصعبة الذي يتجاوز 180 مليار دولار، ويبلغ متوسط إجمالي الناتج المحلي لكل فرد 64.584 دولار، ليحتل هذا البلد الترتيب الثالث على العالم.. لقد أصبح إنجازها الاقتصادي نموذجًا يحتذى به دوليًا.