التطور والتغيُّر هو صفة إنسانية بامتياز، تمرُّ بها المجتمعات وتبحث عنها الدول والحكومات، فلا جمود في الحياة ولا سكون في رحلة طويلة تبدأ بالولادة ولا تنتهي عند الموت، ولطالما كانت حقيقة التغيُّر الدائم هي التحدي الأول والاهم للمجتمعات الانسانية وخاصة المُتنقلة منها، وهي التي غالبا ما تواجه تغيرات كبيرة في ظروف الحياة وطرق البقاء، بل وحتى يمكننا القول إن هذه التغيرات الدائمة التي واجهت المُجتمعات كانت هي السبب الأول الذي ساعدها في تطوير وتنمية مهاراتها العديدة للبقاء والاستمرار فظهرت مهارات كثيرة مثل مواجهة التحديات والتكيُّف بالإضافة للمرونة المُرتفعة عبر البحث عن حلول وطرق غير تقليدية لتنفيذ الاعمال وإنجازِها، فها هي الزراعة تنتقل من زراعة تقليدية بسيطة الى زراعات حديثة تماشي المساحات الخضراء المتوافرة وكميات المياه التي باتت ثروة قومية لدى بعض الدول، وها هي الصناعة مثلا انتقلت من صناعات يدوية الى صناعات اوتوماتيكية حديثة قد لا يمد الانسان بها يده الا لاستلام مُنتجِها النهائي، فالتكنولوجيا والمعدات الحديثة التي تعمل عبر وسائل طاقة حديثة وثابتة نقلت الصناعة من مستوى العمل الصعب الذي يحتاج الى عدد كبير من العمال والحِرفيِّين الى مستوى العمل الذكي الذي يحتاج الى تكنولوجيا وطاقة بالإضافة الى أفكار ومعرفة بالعلوم والدراسات، فبات اليوم المصنع الناجح في رأي الكثيرين هو المصنع الأقل عمالة والأكثر انتاجا وثباتا بالنوع والجودة، وباتت المصانع التي تعتمد على ايدٍ ماهرة كثيرة هي نقاط انتاج قد تتوقف في أي لحظة بناء لأهواء ورغبات العاملين بها، نعم يا سادة انها نظرة العالم الحديث لفكرة الانتاج الثابت والاستمرارية في العمل، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي الثورات الصناعية؟ وكم هو عددها؟ وما كانت مُقوِّماتها؟ وما هي أهم ميزاتها وخصائصها؟ وهل هناك من ثورات صناعية أخرى قادِمة؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان الثورات الصناعية التي سجلها التاريخ بشكل واضح ومُتفق عليه هي ثلاث ثورات هامة، انطلقت أولها من إنجلترا في العام 1760 ميلاديا وانتشرت بعدها في كل ارجاء أوروبا والعالم وذلك بعد تطوير المُحرِّك البُخاري، عِلما بأن هذه الثورة كانت قد ساهمت وبشكل أساسي في تطوير عملية انتاج النسيج والصلب وهي اهم صناعات العالم في ذلك الوقت، هذا وقد ساهمت هذه الثورة وبشكل كبير في تقديم مجموعة من التَّغييرات الرئيسية في طُرق الإنتاج والصناعة التي ما زلنا نجني ثمارها حتى يومنا هذا، فهي الثورة التي كان يقوم جوهرها على امكانية استبدال القوى العضليّة والجُسمانية للعُمَّال بالآلات والمعدات التي تستطيع أن تقوم بما يقوم به الأشخاص من اعمال بشكل اسرع وأفضل وأقل جُهدا وتكلفة ليكون عنوان هذه الثورة العريض هو تسهيل استخدام الآلات، ويرى الكثير من المؤرخين ان الثورة الصناعية الأولى امتدت من العام 1760 الى العام 1830 تقريبا وهو ما ساعد بريطانيا على تحقيق تفوق صناعي هائل جعلها في ذلك الوقت القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم، وهنا يجب الإشارة الى ان هذه الثورة حملت في بذورها تحوُّل المجتمعات من الزراعة والفِكر الإقطاعي إلى مجتمعات تعتمد على عمليات التصنيع الجديدة، هذا وقد تم خلال هذه الفترة تدشين اول سفينة في العالم تسير بالبخار وذلك عام 1778، وبالانتقال للحديث عن الثورة الصناعية الثانية فهي تلك الثورة التي كانت عبارة عن مرحلة من توحيد المعايير الانتاجية والانتقال الى التصنيع السريع وهي التي بدأت عام 1870 واستمرت إلى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 واتّسمت بوجود العديد من الاختراعات الدقيقة التي ساهمت في إحداث تغييرات اقتصادية هامّة في زيادة مستوى الإنتاج الكمّي، ومن اهم أسباب وخصائص هذه الثورة كان اختراع الكهرباء وانتشارها وتوصيلها لكثير من المناطق، بالإضافة لبناء شبكات القطارات وتطوير شبكات التواصل بالتلفون، وقد بدأت في هذه المرحلة فكرة توحيد المواصفات الصناعية للسلع وهو ما ساعد في تطوير سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية، وزيادة كفاءة التصنيع ليتحول انتاج السلع الاستهلاكية فيه الى فكرة التصنيع بكميات كبيرة تقوم على مبدأ تأمين حاجات المجتمعات الاستهلاكية ومن اهم ما حدث خلال هذه الفترة اكتشاف القفزة الكبيرة في عملية توصيل الكهرباء بين الناس بالإضافة الى بداية حلول البترول كمصدر أساسي للطاقة، اما الثورة الصناعية الثالثة فهي الثورة التي بدأت عام 1960 واستمرت حتى العام 2000 تقريبا ومن اهم خصائص هذه الفترة هو التطور التكنولوجي الكبير والسريع وكذلك ظهور الحواســـيب التي ساعدت في فعالية تخزين المعلومات وسرعة وسهولة معالجتها بالإضافة لبداية انتشار فكرة برمجة الآلات للعمل بشكل تلقائي وظهور الروبوتات ناهيك عن الثورة الكبيرة في الاتصالات والتي تحققت بسبب اختراع الانترنت وانتشاره بشكل كبير بين الافراد والمؤسسات وهو ما جعل عنوان الثورة الصناعية الثالثة هو ثورة التكنولوجيا والمعلومات ليطلق عليها البعض اسم " الثــورة الرقميــة". واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن الثورات الصناعية والإنتاجية بجميع اشكالِها كانت دوما تقوم على مبدأ ظهور اختراع جديد ينقل فكرة الإنتاج الصناعي من مرحلة الى مرحلة أخرى، وهو الامر الذي يجعل ما نمُر فيه اليوم من طفرة في مجال الذكاء الصناعي والبلوك تشين وانترنت الأشياء وغيرها الكثير هو بتقديري تأسيس لمرحلة صناعية جديدة تقوم على أساس التحول للعملية الاوتوماتيكية الكاملة لبعض الصناعات بحيث يصبح الدور الشخصي للأفراد مُقتصرا على الرقابة والتحكم بطريقة الإنتاج اكثر من المشاركة الفعلية بعملية الإنتاج نفسها وهنا أستذكر المقولة الألمانية الشهيرة والتي تقول "تاريخ الصناعة هو كتاب مفتوح لقدرات الإنسان".