ديونٌ تولد ديوناً

بعد الأزمة المالية العالمية زاد الاعتماد على الديون وتوليد المزيد منها قبل الأزمة المالية العالمية عام 2008، دفعت الدول الغربية ومعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي نحو اعتماد الخصخصة والقطاع الخاص كروافع اقتصادية تقلل تدخل الحكومات في الاقتصاد، وكان من الطبيعي وبحسب هذا الدور أن يتحمل هذا القطاع عبء المديونية نيابة عن الحكومات أيضا، لذلك فاندهاش العالم من حجم مديونيته كما أعلنها صندوق النقد والبالغة 100 تريليون دولار من إجمالي ديون عالمية مقدارها 152 تريليون دولار، وتحذير الصندوق نفسه من عواقبها، لا يستقيم وواقع الحال.  وبعد الأزمة المالية العالمية زاد الاعتماد على الديون وتوليد المزيد منها من خلال موجات التحفيز المالية التي قادتها الدول المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بغية إحداث النمو الاقتصادي المنشود، وهو ما عبرت عنه السياسات النقدية المتساهلة للبنوك المركزية العالمية باعتمادها أسعار فائدة قريبة من الصفر وحتى سالبة، وتحفيزها للبنوك لإقراض الديون التي قدمت إليها كحزم تحفيز مالية، سواء على شكل قروض مباشرة، أو صكوك، أو سندات دولية أو حكومية، ما ولد ديونا جديدة ضخّمت حجم الديون القائمة في الاقتصاديات المتقدمة والصاعدة - حسب مؤسسة ستاندرد آند بورز زادت ديون 11 دولة عربية بأكثر من الضعف في العام 2015 لتصل إلى 143 مليار دولار من 71 مليار دولار نهاية 2014- وأوقعت الدول منخفضة الدخل وضعيفة الاقتصاد في براثنها، بعد أن أصبحت بديلا لمعونات ومساعدات الدول الغنية. وفي واقع الحال تمثل هذه الديون مديونية العالم لبعضه البعض، حيث يستثمرها الدائن لتعود إليه مع فوائدها، ويستثمرها المدين في إقامة مشاريع أو مواجهة نفقات طارئة أو مستجدة، ويعيدها من ثم بعد انتهاء حاجته لها، ما يعني أن الطرفين وبافتراض وجود سوق راشد للديون يستفيدان، لكن الواقع ليس بمثل هذه البراءة المالية، فهناك ديون تشكل تهديدا للقطاع الخاص بانهيار مؤسساته، وهناك ديون تأكل الناتج المحلي الإجمالي لدول بالكاد تستطيع تحقيق نمو اقتصادي، ودليل ذلك نمو المديونية بسرعة تفوق النمو الاقتصادي، بتشكيلها حوالي 225% من الناتج المحلي العالمي نهاية 2015، مقارنة مع 200% قبل أقل من عقد ونصف العقد.  أكثر من ذلك فالمديونية لم تعد تستخدم من أجل مساعدة الحكومات والقطاع الخاص لأداء أعمالهما فقط، بل أصبح لها سوق عالمية للمتاجرة بها وبما يفوق حجم الإنتاج من السلع والخدمات، كما أن بعض الحكومات والبنوك والشركات المتخصصة تعرض شراء ديون الأفراد والشركات والدول، فالصين مثلا عرضت شراء جزء كبير من ديون الدول الأوروبية. طبعا وجود هذه الديون لا يعني أنها واجبة السداد الآن، فهناك من يستثمرها على شكل سندات طويلة الأجل بين 20 و30 وحتى 40 عاما – هناك ديون مستحقة على بريطانيا منذ الحرب العالمية الأولى، أي منذ 100 عام، وقد سددت الدفعة الأخيرة منها وقيمتها 2 مليار جنيه إسترليني في العام 2015 - بإقامة مشاريع يفترض أن تدر عائداً يفوق حجمها والفوائد عليها، وبغير ذلك فإنها تتحول إلى عبء خطير قد يؤدي عدم الوفاء بها لإعلان إفلاس مقترضيها، شركات كانت أو حتى دول، وقد تفتح الباب واسعا للتدخل الأجنبي مما يضع سيادتها وقرارها وشعبها تحت رحمة الدائنين، لمجرد عجزها عن الوفاء بفوائد تلك المديونية، أو سداد أقساطها.