قطعت دولة قطر شوطا بعيدا على طريق التحول نحو مجتمع الابتكار (Innovation)، فقد أنجزت مرحلة التنمية الاقتصادية، ومرحلة تطوير الصناعات الحديثة، ومرحلة تحقيق نمو اقتصادي ثابت تقريبا يقوم على أساس قوي من العلاقات الاقتصادية الناجحة مع العالم الخارجي، وهي تركز اليوم على التنمية والنهضة العلمية والتعليم واقتصاد المعرفة، وبذلك تكون قد وضعت الأساسات القوية للتحول إلى اقتصاد يعتمد على آخر ما توصل إليه العلم (اقتصاد المعرفة)، ويفيد من آخر التطبيقات التكنولوجية على طريق دولة ومجتمع الابتكار، لإيمان قيادتها بأن الابتكارات، وباعتبارها أحد محفزات النمو الاقتصادي، أو طريقا مستداما لتحفيز هذا النمو، تلعب دوراً أساسيا في خطط التنمية وإستراتيجياتها، من خلال مزيج من السياسات والممارسات، التي تساهم بتوطين المعرفة كحاضنة لكل أشكال الإبداع. وعليه، فالابتكار لا يحدث صدفة، بل هو صناعة متكاملة بما توجده من معطيات جديدة غير مسبوقة، يمكن تجسيدها واستعمالها لتدرَّ عائداً اقتصادياً مرتفعا باعتباره حصيلة التفاعل التقني والعلمي بين مخرجات التعليم، والأبحاث والتطوير في القطاعين العام والخاص والجامعات، فكوريا الجنوبية مثلا تنفق حوالي 4% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير. الدول والمجتمعات التي تحتل مكانة متقدمة في عالم الابتكار، رَكَّزَت على تطوير التعليم النوعي المنسجم مع اقتصاد المعرفة، خاصة التعليم ما بعد الثانوي المستند إلى التكنولوجيا، ونقلت المعرفة إلى مجتمعاتها بوسائل وأدوات مختلفة، واتبعت سياسات لجذب المواهب إليها، وكانت صديقة للاستثمارات الأجنبية ذات القيمة المضافة العالية، كما أقامت حاضنات الأعمال، وأنشأت شراكات بين الجامعات ومراكز البحث العلمي، وبين الصناعات والمنتجين، واهتمت بالعلوم حيث يشكل الإنفاق عليها 2.5%من إجمالي الناتج المحلي في الدول المتطورة. لذلك فالمجتمع الابتكاري تحكمه جملة من المعايير التي تحدد مكانته العالمية، كنسبة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي - معدل إنفاق الدول العربية على البحث العلمي والتطوير والابتكار يتراوح ما بين 0.2 إلى 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل المتوسط العالمي نحو 1.8% - ومعدل نصيب الفرد من الصناعات ذات المردود المرتفع (High-value manufacturing)، وعدد المشروعات المحلية مرتفعة التكنولوجيا نسبة لمثيلاتها في العالم (High-tech enterprises)، وعدد الطلاب في التعليم ما بعد الثانوي، وما يتضمنه ذلك من عدد العاملين من خريجي التعليم العالي بشكل عام، والعاملين من خريجي الكليات العلمية والهندسية بشكل خاص، إضافة إلى إجمالي خريجي التعليم العالي، ناهيك عن نسبة اشتغال المهنيين (ومن بينم طلبة الدكتوراة) في قطاع البحث والتطوير وهي بين 10 و20 باحثا لكل مائة ألف نسمة في الدول المتقدمة، وعدد براءات الاختراع ذات القيمة التي تعود لمبتكرين مقيمين في الدولة لكل مائة ألف من السكان، ولكل مليون دولار مستثمر في البحث والتطوير، ونسبتها من إجمالي براءات الاختراع ذات القيمة المضافة عالميا (Patent activity). ما يعني أن النهضة الابتكارية تحتاج إلى بنية منسقة جيداً، وأهداف واضحة ومحددة، ومؤسسات تنسجم مع معنى ثقافة الإبداع لتطوير بيئة ابتكار محلية من خلال مزيج وطني من السياسات والأهداف والإستراتيجيات والبرامج وخطط العمل، التي تعمل معا لحشد وإطلاق القدرات الابتكارية، الكامن منها والظاهر، لتلعب دورها في النمو الاقتصادي المستدام. وبالتأكيد، فإن الابتكار الناجح اقتصاديا الذي يكون مصدرا لنمو الإنتاجية هو المطلوب، والذي يتطلب العناية بجودة الابتكار نفسه، بدءاً من التعليم الأساسي والجامعي، الذي يؤسس القاعدة العلمية المعرفية للتفكير المبدع والخلاق أفقيا وعموديا، والذي يتضمن تعليم التفكير لتشكيل ثقافة مجتمعية تفاعلية وبناء أسرة إبداعية، مرورا بإدخال التحسينات على الأطر المؤسسية، وإيجاد موارد بشرية ذات مهارات عالية، وصولا لتوفير قوة عاملة مؤهّلة، بالإضافة إلى الاندماج مع الاستثمار العالمي المتقدم والانفتاح على الأسواق التجارية العالمية، وأوساط الأعمال المتطوّرة، لتحسين البنى التحتية للابتكار بشكل متواصل ومتجدد، وتوطين هذا الابتكار باعتباره أحد أهم مدخلات تنويع مصادر الدخل.