الإيمان بالقدرات الذاتية.. واقع يهزم المستحيل

الماضي والحاضر والمستقبل، ثلاثة أزمنة تتحرك باستمرار وبنفس الاتجاه ليلاحق أحدها الآخر، وبالرغم من تقاربها الشديد وسرعتها الكبيرة في قطع المسافات الضوئية، بل والأهم من ذلك فبالرغم من قوة ارتباطها ببعضها البعض بحيث لا يكون الغد بلا اليوم ولا يكون اليوم بلا الأمس، ولكنها ولسخرية القدر لم تلتقي ولو لمرة واحدة وأبدا لن تلتقي، وبالرغم من ذلك يبقى سباق الزمن يدور ما بينها ليقول كل منها (ها أنا ذا) كنت غدا فأصبحت اليوم وغدا سأصبح الأمس، تلك الحقيقة برغم بساطتها إلا أنها غالبا ما تفسِّر صراع الحضارات والأجيال والذي يمر بنفس المراحل ولكن بأزمنة مختلفة، تحاول فيها أن توقف الزمن ليبقى اليوم هو الماضي والحاضر والمستقبل ولكن بلا جدوى، فاليوم لن يكون أبدا رمزا للمستقبل، وكما يتغير كل شيء سيأتي يوم جديد ليحوّل اليوم إلى الأمس ثم يحوّل الأمس إلى الماضي البعيد، نعم هو صراع بين المجتمعات والأشخاص في الظاهر لكنه وفي الحقيقة صراع بين عقارب الساعة وحركة الأيام، هو محاولة لتغيير اتجاه دوران الأرض حول الشمس بينما نُدرِك نحن البشر انه ما من عودة للوراء، هو ذلك الصراع المستمر الذي وإن لم يظهر لكنه موجود وهو نفسه السبب الذي يجعل نفس الجيل يرفض (عندما يكبر) جميع ما كان يطالب به في عز شبابه، فقط لأنه كبر وأصبح يرى الصورة كاملة. بداية ومن الناحية العامة فإن اختلاف الظروف المحيطة والتقدم العلمي قد يجعلان من بعض المعضلات التي لا يوجد حل لها في زمن ما مسائل عادية وروتينية في زمان آخر وهو ما يحوِّل جميع من يعيش في زمن الحل إلى عباقرة ومبدعين في عيون كل من سبقوهم في الأزمنة السابقة، ولكن وبالرغم من جمال الفكرة السابقة إلا أن المشكلة الأكبر قد لا تكمن في مدى إيمان الأشخاص بقدرات الأجيال القادمة وقدرتهم على تخطي ما فشلوا هم بالقيام به سابقا، بل في إيمان الأجيال الحالية بنفسها وبقدراتها على مواجهة تحديات مهمة واجهت العديد من الأجيال سابقا ولم يجدوا لها حلا، المشكلة تكمُن حقيقة في حالة الإحباط واليأس التي قد تترسخ في جيل مُعين لتجعل من بعض الأمور مادة موروثة تتناقلها الأجيال دون حتى التفكير بها أو محاولة مواجهتها بالأسلحة الجديدة من العلم والتكنولوجيا وهو ما يُحوِّل بعض المعضلات إلى مشاكل مُزمِنة تنتقل من جيل إلى آخر ومن حياة إلى أخرى دون حل. وهنا يجب الإشارة إلى أن بداية الحل تكمُن في جيل الشباب الذي يواجه المشكلة المستعصية لأول مرة فمجرد إيمان الشخص بقدراته الذاتية قد يُغيّر قواعد اللعبة كاملة وفعلا قد يفتح الآفاق الجديدة أمام المفكرين والعلماء الشباب للوصول لما لم يحلموا بالوصول إليه سابقا، فالعلم والموهبة والنبوغ تحتاج دائما للثقة والقوة والأيمان بالذات حتى تتحول من مجرد فكرة عابرة إلى شيء ملموس يمكن المراهنة عليه في تغيير تفاصيل الأمور بل ويمكن تشكيله بعقولنا ليصبح فيما بعد جزءا من موروث علمي وشعبي جميل. وأخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي وبالرغم من أن الظروف العامة المحيطة بمشكلاتنا اليومية وكذلك التقدم العلمي الذي يبنيه كل جيل على تعب واكتشافات الأجيال السابقة تعتبر مفتاح حل مشاكلنا العامة إلا أن الثقة بالنفس والتعامل السهل مع الأمور دون أي حكم مسبق عليها او على قدراتنا الشخصية المفتاح السحري لحل أكثر الأمور تعقيدا بل وهو ما يجعل الإنسان قادرا على الوصول لطاقات كامنة في نفسه قد لا يتخيل في يوم من الأيام حتى انه يمتلكها، وهنا أتذكر قصة العالم الألماني الأصل والأمريكي الجنسية "جورج دانتزغ" حين كان تلميذا في السنة التحضيرية للدكتوراه وحدث ذات يوم أنه تأخر على بداية هذا الدرس، وعندما دخل وجلس، ونظر إلى اللوحة وجد عليها مسألتين، وكانت قد جرت العادة في الدرس أن يكتب أستاذ المادة على اللوحة مسألة أو اثنتين ليحلها الطلاب كواجب منزلي ويقدموها للأستاذ في الدرس التالي، فأعتقد جورج أن المسألتين المكتوبتين واجبات ليحلوها في المنزل ولان المسألتين كانت صعبتين جداً فقد اضطر للذهاب إلى مكتبة الجامعة وبدأ يدرس في المراجع والكتب لمدة أربعة أيام متتالية حتى تمكن من إيجاد حل المسألة الأولى، وهو يشعر في داخله بالغضب من هذا الأستاذ الذي أعطاهم هذا الواجب الصعب، وأضطر بعد ذلك إلى الذهاب إلى مكتبه أخرى للحصول على مراجع أخرى تخص المسألة الثانية وهو يتعجب لصعوبة المسألتين واللتين لا علاقة لهما بدراسته وفي محاضرة الرياضيات اللاحقة ذهب جورج إليه، وسلمه الحل، وأعتذر له عن تأخره في حل هاتين المسألتين، تعجب الدكتور كثيراً وازدادت دهشته فهو لم يعط الطلاب أي واجب وقال: لكني لم أعطكم أي واجب والمسألتان اللتان كتبتهما على السبورة هما أمثلة كتبتها للطلاب للمسائل التي عجز العلم حتى الآن عن حلها، نُشرت إثباتات جورج في مجلات الرياضيات العلمية وبناء على اقتراح أستاذه، جعل جورج طريقته في حل المعضلتين أساساً لنيل رسالة الدكتوراه فيما بعد، حيث طلب منه أستاذه والمشرف على رسالته وقال له “أطبع المسألتين ودبسهما مع بعض وسأكون سعيداً بقبولهما كرسالة دكتوراه”، وما زالت هذه المسألة بورقاتها معروضة في تلك الجامعة حتى الآن واصبح "جورج دانتزغ" الأب الروحي للبرمجة الخطية، حيث إن إنجازه الأكبر لم يكن حله لتلك المسألتين وحسب، ولكن في اختراعه طريقة البرمجة الخطية التي تستخدم نماذج رياضية لحساب مخرجات مطلوبة معتمدة على مدخلات مختلفة ومعقدة.