كيمياء الفنون.. والجنون

في كرة القدم لا يعرف المراقب للمواجهات الساخنة أيُّهما يسبق الآخر، الفنون أم الجنون.  لا فرق بين لاعبين ومدربين، وبين مشجعين إلاَّ في كون انفعالات المدربين واللاعبين محسوبة، ومحكومة بعقوبات إدارية ومالية واضحة المعالم، حتى أن المشاجرة بين لاعبي ناديين متباريين قد تتجاوز أرضية الملعب المشحونة بالاحتكاك والشد النفسي والعصبي للصراع إلى مداخل غرف الملابس، وهو حال لا يخفّف منه إلا ما يتبعه من تصريحات مدربين ولاعبين يحرصون على استدعاء الدبلوماسية، فيؤكدون بعد وقوع الفأس في الرأس أهمية الروح الرياضية، مع ما تيسر من المباركة للفائز، والاعتراف بأنهم لم يكونوا في يومهم مع أبراج الحظ بطريقة.. لم نكن جيدين وعلينا تهنئة الفائز. * على أن حالة من شد الشعر وتقطيع الجيوب كثيرًا ما تنتاب المشجعين الأكثر تعصبا، فيحدث ما نعرفه من تدافع ومصادمات، وعنف لفظي وجسدي ـ ليس تجاه الخصوم وإنما- تجاه لاعبي ناديهم نفسه، فيخرج إداري من النادي بعد كل احتجاجات سلمية خارج ملعب التدريبات ليؤكد على احترام النادي لجمهوره، مع التعهد بالبقاء عند الالتزام بتعزيز التواصل وحل المشاكل، وعمل ما من شأنه زرع الابتسامة في وجوه جماهير عطشى لإنجازات تبيض الوجه وتفرمل شماتة الخصوم. * ومع كل خروج على النص فتّش عن الإعلام - وكل الناس تقريبا صاروا إعلاميين- في زمن كاميرا وحروف الهاتف الشخصي، وقدرة أي شخص على إشعال الحماسة وماكنزمات الانفعال، بالتقاط ونشر صورة فوتوغرافية أو فيديو قصير، وما تيسر من مفردات إشعال فتيل حروب كلامية تحيط بالمواجهات الساخنة تحديداً. * وفي العادة فإن السجال الساخن بين مشجعي الأندية يستعر أكثر في مباريات كسر العظم ومغادرة بطولة أو البقاء فيها بحاصل مجموعة المواجهتين.. ولنأخذ مثلاً الحساسية التي تصاحب المشجعين العرب تجاه منافسات تجري في الضفة الأخرى من البحر، وما وراء المحيط، حيث لم تعد قارات العالم سوى قرية كونية صغيرة محكومة بضغطة زر من أصبع.  وصدق من قال بأن الحرب تبدأ بالكلام الذي يكون في العادة إما تضخيم للذات بعبارات تبدو مستفزة أو الحط من شأن المنافس الآخر. * وقد قرأنا ما كتبه إعلام نادي انترخت فرنكفورت الألماني قبل مواجهته برشلونة الإسباني على ملعب الكمب نو: نحن أقوى خارج أرضنا.. لا نخاف الخصوم الكبار.. لا نخاف الملاعب العظيمة.. جائعون للمزيد.. ولا نتوقف عن الحلم.. وأعقب هذا الكلام الترتيب لأمر لم يخطر على بال الكتالونيين الذين تفاجأوا على ملعبهم بجمهور غفير يشجع النادي الألماني الضيف، بل ويطلقون صافرات وهتافات الاستهجان ضد أصحاب الملعب الكتالونيين ليُثار الكثير من الكلام المزعج على نحو التأكيد بقيام مشجعي برشلونة ببيع تذاكرهم في السوق السوداء، أو أن غريمهم الريالي فعل فعلته وفرض اللون الأبيض على قمصان المدرجات. * وبطبيعة الحال.. كرة القدم هي عشق كما هي حرب.. وكما يقال في الغرب.. كل شيء جائز في الحب والحرب.. وقد يظهر ذلك في صورة سيطرة الضيوف على أجزاء كبيرة من المدرجات المخصصة لأصحاب الأرض.. ولنا حينها أن نتصوٌر حجم ارتفاع منسوب الشماتة بين المشجعين، بالوضوح والغمز من قناة بيع القضية أو الخيانة التشجيعية أو نفوذ المال.. الخ! * وكثيرة في المنافسات الكروية حالات الاشتباكات اللفظية التي نتابعها عند مشجعين عرب في بلدان فقيرة، محدودي ومفقودي الدخل لكن كيمياء الفنون والجنون تعمل عملها في كافيهات المشاهدة أو في السوشيال ميديا، فيبدون من الانفعالات كما لو انهم شركاء في اسهم من يفوز ومن يخسر في دوريات الحضور الرياضي المالي الكروي الأوروبي الثقيل. * وأما بعد.. ما أحوجنا لعدم نسيان أن الهزيمة على مرارتها هي جزء أصيل في كرة القدم.