الحكومات الحكيمة التي تنظر إلى المدى البعيد.. ليس هنالك «غذاء مجاني» العالم منشغل بأمور كثيرة وكبرى تهدد النظام الاقتصادي العالمي، وبالتالي نسي أو تناست حكوماته مشكلتي العجز المالي والدين العام. قال «ألكساندر هاملتون» أحد مؤسسي الولايات المتحدة إن الدين العام المعقول هو نعمة وليس نقمة، والعكس صحيح طبعا. لم يحدد هاملتون حجم الدين العام الذي يقبله، لكنه حتما لم يكن ليقبل بنسبة دين عام توازي 105% من الناتج الأمريكي أو 60 ألف دولار لكل أمريكي. هذا هو الدين الأكبر في العالم، لكن النسبة حتما ليست الأعلى من الناتج، حيث تتفوق اليابان مثلا مع 250% على معظم الدول. هنالك مشكلة يجب أن تعالج، ليس فقط على المستوى الأمريكي، وإنما على العالمي أيضا، منطقة اليورو كمجموعة ليست أفضل من هذه الناحية وتعاني من عجز ودين. تكمن مشكلتا العجز والدين في خطورتهما التي تتعدى الموضوع المالي لتصل إلى الإدارة والقضاء والإنتاجية والسياسة، وبالتالي حلهما معقد ويتطلب ذهنية مختلفة تعجز معظم الحكومات عن اعتمادها. هنالك تحول كبير حصل في الولايات المتحدة بدأ من سنة 2002، أنهى كلينتون عهديه في سنة 2000 مع فائض في الموازنة واستمر هذا الواقع في السنتين الأوليين من عهد بوش وحصل عجز قدره 3,5% في سنة 2003. ماذا حصل وكيف يفسر هذا التحول الكبير في دولة معروفة بفعالية مؤسساتها؟ أولا: سقطت الأسواق المالية بدءا من سنة 2000 خاصة شركات التكنولوجيا وبورصاتها «نازداك»، مما سبب سقوطا في إيرادات المالية العامة. ثانيا: حصل ركود عام في الاقتصاد الأمريكي، أي انخفاضا في أرباح الشركات والدخل العام وبالتالي في الإيرادات الضرائبية، كما خفضت إدارة بوش الضرائب على الأغنياء كي يستثمروا لكنهم لم يفعلوا. نضيف إلى ذلك ارتفاع الإنفاق العسكري بسبب الحرب في العراق التي كلفت أكثر بكثير من التوقعات، وبالتالي ساهمت في انهيار الدول وحكومات المنطقة دون أن نصل حتى اليوم إلى استقرار بالمعنى الحقيقي للكلمة. لا شك أن الإنفاق غير العسكري وخاصة الصحي ارتفع كثيرا بسبب الهدر وسوء الممارسة من قبل الجميع، لم يستطع المجتمع الأمريكي حتى اليوم إيجاد حل للإنفاق الصحي الأعلى في العالم. في بداية عهدي أوباما، ارتفع العجز بسبب الضخ المالي الذي أقر لتحفيز الاقتصاد مع بداية «الركود الكبير» في سنة 2008. مع بداية النهوض الاقتصادي وتواصل النمو وإن كان متواضعا، انخفض العجز السنوي لكن مشكلة الدين ما زالت قائمة بسبب الحاجة إلى الإنفاق وصعوبة زيادة الضرائب في ظروف متقلبة كالتي يعيش فيها المجتمع الأمريكي. يقول الاقتصادي «لافير» إن رفع النسب الضرائبية، خاصة في ظروف ضيقة، يؤدي إلى انخفاض الإيرادات الضرائبية بسبب زيادة التهرب الضريبي، يجب أن نعلم أن أكبر مستثمر في سندات الخزينة الأمريكية هي الصين وثم اليابان وتليهما مجموعة الدول المصدرة للنفط. هل يكون الحل عبر التقشف عندما لا يستطيع المجتمع حل مشكلة العجز المالي؟ أظهرت التجارب الأوروبية في اليونان وغيرها أن التقشف صعب ويسبب انتفاضات شعبية وغضبا عاما وربما عدم استقرار سياسي خطير. الحلول موجعة، إن كانت عبر التقشف أو رفع الضرائب، وبالتالي تكمن الحكمة في العناية وتجنب الوصول إلى المأزق اليوناني. الحكومات الحكيمة هي التي تنظر إلى المدى البعيد وتفهم أنه ليس هنالك «غذاء مجاني» كما نعرف جميعا جيدا.