الأموال العصرية

صادق مجلس النواب الوطني الجزائري مؤخرا على تعديل أدخلته الحكومة على قانون يمنح البنك المركزي الجزائري حق طباعة كميات إضافية من الأوراق النقدية المحلية، لمواجهة العجز في الموازنة، بالرغم من تحذيرات المعارضة والخبراء من ارتفاع معدلات التضخم التي قد تحدث نتيجة لهذا الإجراء. هذا السيناريو المتكرر يمثل نموذجا صارخا للإمعان في مفارقة التخطيط السياسي والاقتصادي في كثير من الدول لا سيما دول العالم الثالث لأبجديات المعطيات الأكاديمية والعلمية. لأن هذا السؤال.. سؤال «إلى أي مدى يكون حكيما ومجديا أن تطبع الدولة.. أي دولة، المزيد والمزيد من أوراق النقد الخاصة بها؟» ليس قاصرا بالطبع على الجزائر وحدها، بل تواجهه على الدوام كل الدول تقريبا. يرتبط الكم المطبوع من الأوراق النقدية في أي دولة بمفاهيم ومعايير اقتصادية مثل معدل التضخم والقوة الشرائية وعجز الموازنة في تلك الدولة ومثلما أن لزيادة هذا الكم المطبوع من أوراق النقد أضرارا ومشاكل فإن لندرته الشديدة أيضا أضرارا ومشاكل وخير مثال على هذه الحالة المقابلة ما يحدث هذه الأيام في فنزويلا التي كانت تعاني أصلا من تفشي التضخم وعجز الحكومة عن إصدار أوراق نقدية جديدة، فأصبحت السيولة لذلك شبه معدومة وبدأ النقد في النفاد. وبات عملاء البنوك يصطفون في طوابير طويلة في انتظار الوصول إلى أجهزة الصراف الآلي، ليجدوا أن الحد الأقصى اليومي للسحب النقدي هو 10 آلاف بوليفار، أي ما يعادل أقل من دولارين أمريكيين. إزاء هذه المعادلات المعقدة أنتج الاقتصاديون نظرية اسمها نظرية الأموال العصرية والتي ينص محورها الأساسي على أنه (مع افتراض عدم حدوث التضخم على الإطلاق فسوف يكون بوسع البنوك المركزية الاستمرار في طباعة الأوراق النقدية واستخدامها من أجل تمويل العجز المالي الحكومي إلى الأبد). ولكن عدم حدوث التضخم بإطلاق يتوفر فقط في حالة الولايات المتحدة التي تظل عملتها سلعة مطلوبة على الدوام، على مدار الثانية وبطول وعرض الكوكب، والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأخرى طبعا ولكن بدرجة أقل بطبيعة الحال بقية دول العالم لا يتحقق لديها شرط نظرية الأموال العصرية لأن عملتها الوطنية لا قيمة لها خارج حدودها وبالتالي يتعين عليها ألا تتمادى كثيرا في طباعة أوراق النقد لتمويل العجز الحكومي. هذا هو ما تقوله نظرية الأموال العصرية بكل وضوح وما برهنت عليه النتائج العملية في كل مرة تتمادى فيها دولة في طباعة النقد المحلي، متمنية على الله الأماني وألا يزداد التضخم بازدياد كتلة النقد المتداول بين الناس فيهزمها التوقع وتخذلها الأحلام لكن حكومات كثير من الدول لم ترعو بعد وما زالت تقرر في كل مرة مثلما هو حاصل في الحالة الجزائرية تجريب المجرب مرة بعد مرة وإعادة اكتشاف المكتشف تارة إثر أخرى دون اتعاظ أو تدَبُّر.