هل ولى ومضى زمان الفروع البنكية؟

منذ الوهلة الأولى التي قرأت فيها خبر إطلاق مجموعة بنك قطر الوطني QNB لجهاز صراف آلي متطور وحديث قادر على تقديم حزمة من الخدمات المصرفية المتكاملة للأفراد في تجربة اعتبرها البنك رائدة وفريدة من نوعها تطبق في دولة قطر، جالت في خاطري مجموعة من الأسئلة المتنوعة، صحبتها سيناريوهات متعددة تحاول رسم ما سيكون عليه الواقع المصرفي بعد سنوات من الآن، هل بدأنا نجهز لطي صفحة البنوك التقليدية، وهنا نتحدث عن مفهوم الكيان الهيكلي للبنوك وليس عن نوعية الخدمات، هل ستغلق الفروع البنكية المترامية هنا وهناك، ونكتفي بمقر رئيسي لبنك ما وأجهزة صراف آلي متطور، أي تكلفة اقتصادية لهكذا حلول، هل فعلاً الذكاء الاصطناعي سيقود التحول المصرفي، هل هذه خطوة جديدة للقضاء بين قوسين على الأوراق النقدية نهائياً ومعها المعاملات الورقية وإن كنا تقريبا قطعنا أشواطاً متقدمة في ذلك نتيجة التحول الكبير في أنظمة المدفوعات الإلكترونية.. جهاز الصراف الآلي الذي كشفت عنه مجموعة بنك قطر الوطني QNB الذي قامت بتركيزه في مول بلاس فاندوم في مدينة لوسيل - مدينة المستقبل والحاصلة على تصنيف المدينة الذكية والعصرية المتطورة-، وصفته مجموعة بنك قطر الوطني بأنه جهاز ذاتي شامل ومتكامل الخدمات، فمن خلاله يمكن القيام بعمليات الإيداع والسحب النقدي، كذلك القيام بعمليات إيداع الشيكات، طباعة البطاقات البنكية والمصرفية الائتمانية فلا حاجة للتنقل إلى الفرع للتقديم على طلب الحصول على بطاقة ولا حاجة لانتظار أيام لوصولها عبر البريد العادي. الجهاز ذلك يتوفر على خاصية تمكن العميل التواصل عبر تقنية الفيديو مع أحد الموظفين المصرفيين عند الحاجة لذلك، بالتالي يمكن القول إن هكذا جهاز هو بمثابة فرع بنكي مصغر جداً. وقع تصميم وتطوير هذا الجهاز من قبل شركة NCR كبرى الشركات الأمريكية المختصة في الحلول التقنية والرقمية للمدفوعات، التي يعود تاريخ بداية عملها إلى عام 1884، فهي أول من صنع أجهزة " الكاشير" القديمة للباعة وهي تعد اليوم من الشركات الرائدة في تحويل وربط وتشغيل منصات التكنولوجيا للأعمال المصرفية والمتاجر والمطاعم، أي أن تخصصها بالأساس صناعة التكنولوجيا للمؤسسات المصرفية ومؤسسات التجزئة والضيافة. يقع المقر الرئيسي لشركة NCR في أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية ومدرجة في بورصة نيويورك للأوراق المالية، وتسيطر على حصة سوقية كبيرة في مجال صناعة أجهزة الصراف الآلي الذي يعد جزءاً بسيطاً من أنشطة الشركة والتي بلغت عائداتها خلال العام الماضي بأكمله 7.8 مليار دولار أمريكي بزيادة قدرها 10٪ على عام 2021. بالعودة إلى الجهاز المصرفي الآلي والذكي وما قد يشكله من نقطة تحول في العمل المصرفي، فإن أول نقطة يمكن ملاحظتها في حال نجاح هذا الجهاز ليس فقط على المستوى المحلي وإنما كذلك العالمي، هو إعادة هيكلة الإدارات والأنظمة داخل البنوك، إما من خلال شطب إدارات وفروع مصرفية أو من خلال إحداث إدارات جديدة، والراجح والمؤكد أن الاهتمام والعناية ستكون بإدارات تقنية المعلومات وحفظ البيانات وسلامتها من خلال تعزيز قواعد وأنظمة الأمن السيبراني والحرص على ضمان سلامة الخدمة على مدار الساعة. ونستنتج من هنا إننا قد نسجل تحولا في سوق العمل في ما يتعلق بالقطاع المصرفي من خلال ظهور الحاجة لوظائف جديدة تقتضي الإلمام الكلي بقواعد ونظم الذكاء الاصطناعي، مقابل اضمحلال وظائف أخرى ( وإن كانت هذه الفرضية مستبعدة على الأقل على العقدين المقبلين فمهما بلغ الذكاء الاصطناعي في المجال المصرفي من معرفة وقدرة على تقديم الخدمات فإن الحاجة للموظفين والصرافين يبقى قائماً، لسببين رئيسيين، الأول بعض المعاملات قد تستوجب تقييمات بشرية كمنح القروض وإعادة جدولة التمويلات بالإضافة إلى بعض المشكلات التي تستوجب دراسة بشرية وإيجاد الحلول، فالذكاء الاصطناعي إلى حد هذا التاريخ مبرمج على تطبيق نظم بحذافيرها دون مراعاة بعض الجوانب التي قد تكون إنسانية. أما السبب الثاني فرضية تعطل الخدمات والذي قد يجبر العميل على التواصل مباشرة مع البنك، على سبيل المثال ما حصل قبل إجازة عيد الأضحى المبارك من تعطل خدمات OTP لدى أحد البنوك المحلية ليوم كامل تقريباً وما أنجر عنه من تعطل لصالح آلاف من العملاء وتأخر تنفيذ الصفقات التجارية للبعض منهم، مما دفع جانب منهم إلى اللجوء إلى الفروع البنكية والمصرفية لقضاء شؤونهم إلى حين عودة الخدمات الإلكترونية لتطبيق الهاتف الجوال الخاص بذلك البنك. أما في ما يتعلق بإعادة رسم جغرافيا الفروع المصرفية عند تعميم هذا الجهاز، فإن الأمر يستوجب طبعا دراسات مستفيضة تتعلق أساساً بمراعاة مؤشرات الشمول المالي أي توفير أقصى حد من الأجهزة لتقديم الخدمة وتجنب الطوابير الكبيرة أمام الأجهزة وكذلك توفير من يقوم على تعهدها وصياناتها، وهو ما قد يؤشر إلى أنه في حالة القيام بإعادة هيكلة للفروع فإننا قد نرى تقليصا لعددها وليس لإلغائها، وهو ما أكده العديد من المسؤولين المصرفيين خلال السنوات الأخيرة بعد انتشار الخدمات الإلكترونية، حيث قالوا إنه لا غنى عن الفروع البنكية وإنما إعادة النظر في خريطتها الجغرافية. ومن جهة ثانية، وبلا شك فإن أجهزة الصراف الآلي الذكية والشاملة هي لبنة أخرى تضاف إلى قائمة الخطوات الخاصة بتحقيق التحول نحو أنظمة مدفوعات تقوم على صفر نقد ورقي في وقت تتسارع الخطى العالمية نحو اعتماد أفضل الحلول لاستخدام العملات الرقمية والتي بدأت بعض الدول في إقرارها فعليا وإن كان جزئيا معتمدين في ذلك على سلاسل الكتل أو ما يعرف اليوم بالبلوكتش، كذلك العملات المشفرة التي كانت كذلك الشرارة التي الهبت القطاع المالي العالمي واستقطبت لها تدفقات مالية ضخمة وجذبت إليها مشاهير العالم من ساسة ولاعبين وفنانين وغيرهم للتداول فيها وإن كانت الغالبية العظمى من الدولة تمنع التعامل بتلك العملات، نظرا لكونها خارج الرقابة المالية وقد تكون بوابة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب، ولهذا نرى سعى الدول لإيجاد عملات رقمية قانونية ورسمية مغطاة بغطاء نقدي يضمن القيمة الإسمية لتلك العملة. ومن بين النقاط الأخرى التي قد تتأثر بشكل غير مباشر عند تعميم هكذا أجهزة وتطويرها لتشمل خدمات أخرى، هي قائمة الدخل التشغيلي التي نتيجة تأثر التكلفة التشغيلة من خلال انخفاض النفقات، وربما هذه النقطة قد تكون من النقاط المضيئة للصراف الآلي الشامل والذكي. بين هذا وذاك، تتعدد السيناريوهات وتختلف، ولكن تبقى كلمة الختام إنه في مجال التعاملات المصرفية لا استغناء عن الفروع البنكية على الأقل لعشرين سنة قادمة، فلابد من إدارة وهيكلة قائمة تشرف على الإدارة والرقابة على تحويلات ومعاملات مالية تتم يوميا بعشرات المليارات من الدولارات يوما على الصعيد العالمي، فالبصمة الإنسانية والتواصل المباشر في الأعمال المالية والمصرفية مطلوب خاصة عند وقوع المشاكل الفنية حتى وإن تم تطوير هذه الأجهزة التي لا يختلف حولها عاقلان بأنها تسهل تعاملات الأفراد وتكسبهم الوقت، وطالما ان هناك تواصلا مع صرافين حتى من خلال تلك الأجهزة بتقنية الفيديو فالثقة المصرفية موجودة.