شاب يمشي في شوارع المدينة التي يزورها لأول مرة، يتجول في أروقتها، يقف هنا متأملا محالها التجارية، يركض بين طرقها، يحتسي كوبا من الشاي او القهوة ويمشي بخطوات بطيئة تارة ومتباطئة تارة أخرى دون أي أسباب تُذكر، يمشي وحيدا دون ان يخطط بالوصول لمكان مُحدد فكل الأماكن مُتشابهة وما هي الا محاولة لاكتشاف مكان جديد، ولكنه فجأة وعلى حين غرة يجد نفسه واقفا امام باب السوبر ماركت ليرمق بنظره جانبا فيكون وجها لوجه امام صديقه القديم الذي لم يره منذ سنوات، فيتعانقان ويتبادلان اطراف الحديث وحينها يكتشف احدهما ان صديقه هذا يعمل في شركة كبيرة تبيع نفس البضائع التي يبحث هو عنها منذ فترة، يا لها من صدفة! قد لا يُصدِّقها الجميع ولكنها حدثت مع كثير ممن أعرف بهذه الطريقة نفسها أو بأي شكل من اشكالها المختلفة، إلهام من الله او عون أو سند، نحتاجه او نبحث عنه لنجده امامنا دون ان نتكبد عناء البحث او المتابعة الدائمة والسعي خلفه، نعم إنها الصدفة بل الصدفة البحتة فكلها احداث وكلنا بشر، ندرك بقلوبنا ما قد لا نراه بأعيننا، فنخاف من الذهاب الى مكان ما دون أي سبب مقنع، نخاف فقط بإحساسنا بالمكان والزمان، وبالفعل فما ان نصل حتى يحدث أمر سيئ لم يكن يتوقعه أحد منا، نختار اجابة على سؤال نسمعه للمرة الاولى ولا نعرف جوابه الصحيح، فنصيب ونتحول الى عباقرة ومفكرين، حدس صائب واحساس داخلي يتولد دون تفكير، فيعرف وحده طريق الحقيقة، نعم يا صديقي انها الصدفة، حظوظ وصُدف، وقائع واختراعات ابطالها الحقيقيون هم التزامن الغريب بالوقت والاحداث والأشخاص، موافقات غريبة وفّرت علينا نحن البشر الكثير والكثير من التفكير والبحث والدراسات، احساس داخلي يتولد دون تفكير، فيعرف وحده طريق الحقيقة دون أي إرشادات أو خرائط، يمشي وكأنه يعرف تفاصيل ما يدور وجغرافيا جميع الأماكن فيصل بنا على الوقت بدقة متناهية لا يمكن التخطيط لها بأي شكل من الأشكال، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هي الصدفة؟ وكيف يمكن استغلالها من الناحية المالية الاقتصادية؟ وما هي اهم الاكتشافات التي تمت عبرها؟. أولا وقبل أي شيء فإنه من المهم معرفة أنه من الناحية العامة فإن الصدفة هي كل ما يحدث عرضا ودون اتفاق أو موعد أو قصد، فكلمة عن طريق الصُّدفة تعني أنها بلا توقع أو انتظار بل بشكل ارتجالي وفجائي، دون أي إعداد مسبق، اما من الناحية الشعبية فإن الصدفة يمكن تعريفها على أنها عملية أو حدث نادر يحدث دون أي تحضير أو ترتيب مسبق، وأخيرا فمن الناحية العلمية فهي عبارة عن توافق مفاجئ بين مجموعة من الأحداث، والذي يتم ادراكه ومعرفته على أنه ذو معنى بالرغم من عدم وجود علاقة سببية ظاهرية له، هذا ومن ناحية أخرى فإنه من المهم معرفة أن أهم المحاولات الأولى لفهم ما يسمى "الصدفة" كانت تاريخيا على يد كل من عالم البيولوجيا "بول كاميرر" والعالم النفساني "كارل جوستاف يونج" في أوائل القرن العشرين، وذلك عبر نظرية تكرار الأحداث في الحياة والمجتمع "ونظرية التسلسل" والتي تفترض أن هناك قوى خفية تحكم تحرك موجات الأحداث في العالم، أما "يونج" فقد طور فكرة التزامن وحولها الى مبدأ ترابط لا سببي حيث افترض أن عدد الأحداث ذات المصادفات الغريبة أكبر من عدد احتمالات حدوثها الرياضية، وهو برأيه ما يجزم أن هناك عاملا إضافيا يشرح ظاهرة الصدف والذي كان حسب وجهة نظره هو "التخاطر" أو "التواصل الروحي"، هذا بالإضافة الى كثير من التفاسير والنظريات الأخرى التي حاول العديد من المراقبين والعلماء تفسيرها دون الوصول لاتفاق كامل. من الناحية الاقتصادية والعملية فقد كان للصدفة دور كبير في كثير من الأحيان في ارشاد الأشخاص والمديرين الى طريق الحقيقة والربح، فها هو الذي يشتري الأسهم لأول مرة يُحقق أرباحا خيالية فيقول من حوله ما هذا الا حظ المبتدئ، وها هي بعض الشركات دون أي سبب تتداول في الأسواق عبر مكررات ربحية غير منطقية وها هي تلك المنتجات تنفق سريعا ودون أي مجهود وغيرها الكثير والكثير. واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن الصدفة والاحداث غير المُدبرة بالرغم من أهميتها الا انها خطوة مُساعدة وليست وحدها كافية في طريق الوصول للنجاح وتحقيق الأرباح، فالأخذ بالأسباب والعمل الحقيقي القائم على الدراسة هو السعي الذي أمرنا الله تعالى به، على أن نُدرك في باطن عقولنا ومكنوناتها بأنه لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا، وهنا أتذكر قصة الصيدلاني الشهير "جون ووكر" بالعام 1826 ميلاديا عندما كان يعمل على تجارب خاصة حيث قام بخلط كمية معينة من كلوريد البوتاسيوم مع كمية من كبريتيد الأنتيمون عن طريق الصدفة، ثم قام بتقليب التركيبة من خلال عود خشب صغير فالتصق هذا الخليط الغير معروف بالنسبة له بعود الخشب وجف عليه سريعا، وعندها حاول "ووكر" فصله عن الخشب لاستخدام الاخشاب في شيء آخر فاستخدم حجرا صخريا لحك الخليط وفصله، وما أن فعل ذلك الا ولاحظ وجود وتطاير شرارات ودخان، لتكون بذلك الشرارة الأولى لاختراع أساسي نقل الانسان من الظلام الى النور، اختراع ظهر بمحض الصدفة فكان شعلة في حياتنا استمرت الى يومنا هذا.