تعرف الاستدامة الاقتصادية على أنها الحالة التي يتمكن من خلالها الاقتصاد المحلي من تحقيق الصمود في الأداء واستمرار وتيرة نشاطه من إنتاج واستهلاك دون تأثره بالصدمات السلبية التي قد تعيق نموه أو تجمد أداءه ونشاطه. ويأتي هدف استدامة الاقتصاد كأهم أهداف الركن الاقتصادي في رؤية قطر 2030. كما أن مؤشرات ثبات مستويات المعيشة والقدرة الشرائية والتنوع الاقتصادي والجاذبية لرؤوس الأموال وكذلك استمرار وتيرة النشاط الاقتصادي وتناميها من أهم مؤشرات اختبار مدى استدامة الاقتصاد وقدرته على المحافظة على العطاء. ولاشك أن هبوط أسعار النفط من مستويات 100 دولار إلى المستويات الحالية عند 30 دولارا خلال السنة والنصف تقريبا استدعى التفكير بشكل جدي في موضوع كيفية تحقيق استدامة الاقتصاد القطري وخاصة في حالات تعرّض الاقتصاد إلى صدمات سلبية. وقد تعرّض الاقتصاد القطري إلى أزمتين اقتصاديتين خلال السنوات السابقة، واحدة تتعلق بالأزمة المالية في سنة 2008 والأخرى بأزمة متكررة وهي انخفاض حاد في أسعار البترول كما حدث في سنوات 1984 و1999 و2015. وبالرغم من أن تعافي الاقتصاد العالمي وتعافي أسعار البترول وتبني السياسات الإصلاحية كان لهم الأثر في تحسين وضع الاقتصاد في الأزمات السابقة، إلا أن قوة تحمل الاقصاد القطري في مجابهة تلك الأزمات كان من التحديات الناجحة التي مر بها. وكان من شأن استدعاء الاحتياطيات واستخدام القدرة الاقتراضية وكذلك اتباع سياسات كفائية وتقشفية من أهم ما استخدمت في مواجهة تلك الأزمات الاقتصادية. ورأينا حاليا أن هبوط أسعار النفط أثّرعلى طريقة إدارة القطاع الحكومي وبالأخص فيما يتعلق بالنفقات الحكومية التي دخلت مرحلة إعادة ترتيب أولويات الإنفاق في البابين الثالث والرابع من الميزانية وذلك بتأجيل المشاريع الأقل أهمية. إضافة إلى ذلك، رأينا أيضا اتباع الحكومة سياسة ترشيد الإنفاق بما يحقق الكفاءة الاقتصادية المتعلقة برفع إنتاجية الوحدات الحكومية الفاعلة، وذلك من خلال عمليات الدمج وإلغاء الازدواجية والتكرار في الأنشطة والمؤسسات، وكذلك تقليل الترهلات في القطاع الحكومي وإلغاء الأنشطة غير المنتجة. وتلك الإجراءات سيكون لها الأثر الأكبر في ترشيد الإنفاق في جانب البابين الأول والثاني من ميزانية الحكومة. ولكن يبقى السؤال المهم وهو، كيف يمكن تحقيق الاستدامة الاقتصادية الشاملة والتي تحافظ على نفس درجة النمو الاقتصادي ووتيرة أدائه؟ لاشك أن اقتصاد الدولة لازال يعتمد على واردات بيع البترول والغاز اللذين يمثلان ما لا يقل عن 60 % من الناتج المحلي الإجمالي وما لا يقل عن 80% من إيرادات الحكومة. وتحتاج الحكومة اليوم إلى تنويع أكبر في إيراداتها ومدخولها من أجل المحافظة على قدرتها الإنفاقية في تحقيق إنفاق جار واستثماري مستمر وأيضا في تطوير البنية التحية وتخطيط البلاد بشكل سليم. وقد رأيت أن نموذج حكومة الأعمال Corporate State هو من أنجح النماذج التي يمكن تبنيها في استدامة الاقتصاد. وهذا النموذج حاليا بارز ومعمول به، وقد تبنته بشكل كامل الحكومة السنغافورية، حيث تعتمد الحكومة السنغافورية على مصادر إيرادات عالية التنوع وكبيرة أثبتت قوة الحكومة الاقتصادية، حيث تملك الحكومة السنغافورية مشاريع إنتاجية داخل وخارج البلاد تدر عليها دخلا كبيرا، وكذلك تستقبل الحكومة السنغافورية إيرادت كبيرة تدخل عليها كرسوم من تقديم خدمات وبنية تحتية عالية الجودة. تلك المنتجات والخدمات ذات الجودة العالية استقطبت استثمارات كبيرة من القطاعين الخاص المحلي والأجنبي وحافظت على نفس وتيرة النشاط الاقتصادي ونموه والثقة به وذلك أن الحكومة دائما مستعدة لتنشيط الاقتصاد وتوجيهه بشكل إنمائي وخدمي بما لديها من قدرة إنفاق عالية ومتنوعة ومستمرة.
