العرب وخاصة الخليجيين هم أكثر الشعوب إعجابا بالتجربة الاقتصادية السنغافورية وأكثرهم رغبة بتقليد هذه التجربة في بلدانهم. ودائما ما يعبرون عن عظمتها وإعجازها ويتوعدون بدراستها والقيام بتجربة اقتصادية أخرى تكون شبيهة أو أفضل منها. بهذا الإعجاب الوجداني نقوم دائما بمقارنة مؤشراتنا ومنجزاتنا الاقتصادية بتلك المؤشرات والمنجزات في سنغافورة، ويراودنا حلم أزلي بتحقيق ما حققه هذا البلد الصغير الذي يمثل في حجمه مدينة صغيرة من المدن العربية. أدبياتنا الاقتصادية مليئة بمثل تلك المقارنات ودائما ما نستشهد بها في دراساتنا وندواتنا وجلساتنا الحوارية، فنضرب بها المثل كنموذج في التنمية والنجاح والإبداع الاقتصادي. ورغم هذا الإعجاب المفرط والرغبة الشديدة في تقليد هذه التجربة الاقتصادية، إلا ان كثيرا منا من يجهل كيف استطاع هذا البلد الصغير خلال أربعين سنة أن يلتحق بالدول الكبار ويحقق المعجزة رغم كل المصاعب والمشاكل والتناقضات التي كان يعيشها السنغافوريون. السؤال الذي يفرض نفسه هو هل بإمكاننا حقاً القيام بما قام به هذا البلد الصغير من تضحيات وتماسك بين فئات الشعب لتحقيق معجزته؟ وهل قدراتنا الذهنية والفكرية والعلمية والمالية تؤهلنا لتحقيق ما حققته سنغافورة؟ سنغافورة البلد الآسيوي ذات الخمسة ملايين نسمة وصاحب المعجزة الاقتصادية المدهشة، استطاع أن يحول نفسه من دولة فقيرة نامية، لا تمتلك أبسط مقومات الدولة، إلى مصاف الدول المتقدمة. كانت البداية عام 1965 الذي يعتبر من أصعب السنين التي مرت على السنغافوريين، ففي هذا العام اتخذت ماليزيا قرارا تاريخيا بالتخلي عن الجزيرة الصغيرة والتي كانت حينها جزءاً منها. أرادت ماليزيا بهذا القرار أن توجه صفعة لهذا البلد الفقير من كل شيء الموارد والمال والمياه وحتى الخبرة في التنظيم الإداري والمعرفة الجيدة بدهاليز السياسة والاقتصاد. كانت ماليزيا تشكل المصدر الوحيد لكل عناصر العيش لهذا البلد، مثل الحماية والمياه ومختلف السلع والخدمات وكذلك فرص العمل. بعد القرار الماليزي دخلت سنغافورة حالة الفوضى السياسية والاجتماعية فانتشر العنف والمظاهرات والجرائم والسرقات وارتفاع كبير في معدل البطالة والفساد الإداري وركود اقتصادي حاد، أصبح البلد غير مستقر ومن أخطر بقع العالم. إضافة إلى ذلك فإن تركيبة الشعب السنغافوري تهدد وحدة البلد والدخول في صراعات معقدة، فالمجتمع السنغافوري يتكون من مجموعة غير متجانسة ترجع أصولها إلى الهند والصين وماليزيا وغيرها. إذن القضية الأهم التي كانت تشغل بال المسؤولين السنغافوريين بعد الانفصال عن ماليزيا هي وحدة الشعب والمخاوف من تفتته. فأول ما دعا إليه المسؤولون هو زرع الثقة لدى الشعب في النظام القائم وذلك من خلال تطبيق العدالة الاجتماعية ومحاربة كل أشكال التمييز والعنصرية والطائفية والفساد، ووضع نظام تتساوى فيه الفرص والتآلف بين الأعراق، ويكفل حرية الرأي والتعبير وتعدد المعتقدات الفكرية والدينية، فقاموا بتدريس طلابهم فنون وآداب التسامح والتعايش مع الآخرين واحترام مذاهب وأديان ومعتقدات الآخرين، والعمل بمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب. فأقروا جميعا في دستورهم الأول «نحن مواطنو سنغافورة نتعهد بأن نكون شعبا متحدا بغض النظر عن الجنس أو اللغة أو الديانة وأن نبني مجتمعا ديمقراطيا يقوم على العدالة والمساواة لنحقق السعادة والرخاء والتقدم لأمتنا».
