النفط والحروب الاقتصادية

يمكن أن تكون الحروب الاقتصادية أحيانا أشد وطأة على الشعوب من الحروب العسكرية. لا تؤدي الحرب الاقتصادية بالضرورة إلى حرب عسكرية، إنما يمكن أن تسبب حدوث بعض الأعمال العنيفة المرتبطة بمصالح الشعوب. من الممكن أن تسبب الحروب الاقتصادية أزمات نفسية اذ تؤثر المصالح على الثقة بالدولة والمستقبل والنقد. من الممكن أن تكون الحروب الاقتصادية نفسية أي تعتمد على التخويف للوصول الى مصالح أو قرارات معينة. لا تكون الحروب الاقتصادية بين الدول فقط، بل يمكن أن تكون بين الشركات أو بين دولة وشركة. حروب الدول الاقتصادية تحصل للفوز بالتقدم والنمو، ولا شك أن الولايات المتحدة دخلت في العديد منها مع أوروبا واليابان واليوم مع الصين. في الستينيات كان الخوف الأمريكي كبيرا من اليابان ونذكر جميعا الكتاب القيم الذي وضعه صاحب مجلة "اكسبريس" سابقا "جان جاك سيرفان شرايبر" حول "التحدي الياباني" الخطير ليس فقط بالنسبة لأوروبا وانما للغرب جميعه. في الثمانينيات، كانت السياسات الاقتصادية اليابانية هجومية بامتياز عبر الدعم وتدخل الحكومات لفتح الأسواق الخارجية كما لإغلاق الأسواق الداخلية أمام المنافسة الآتية من الخارج. كانت وزارة التجارة الخارجية والصناعة MITI قائدة للقطاع الخاص مما سمح للاقتصاد الياباني بزيادة حصته في الناتج العالمي 3 مرات. حصة الصادرات اليابانية في التجارة العالمية تضاعفت مرتين. أهمية تسريبات "ويكيليكس" انها أكدت مجددا أهمية التجسس في الاقتصاد لحماية النفس وإضعاف المنافس أو الخصم. هنالك أمثلة كبيرة عن حروب بين الدول منها التجسس الذي حصل مؤخرا بين الولايات المتحدة وأشد حلفائها ومنها ألمانيا. يجري التجسس تحت شعار الأمن، لكنه يهدف حقيقة الى التجسس الاقتصادي في سبيل المعلومات التكنولوجية والفوز في السباق الاقتصادي. آخر حرب جدية حصلت في رأينا وذات شأن كانت بين مؤسسة التحقيقات الأميركية FBI وشركة "آبل" Apple بشأن فك رمز الخليوي الذي كان يحمله ارهابي جريمة سان برناندينو. كانت مواجهة حامية تتعدى شركة "آبل" لتنظم العلاقة بين الدولة والشركات بشأن الحريات والعلوم والبحوث. مساندة شركات التكنولوجيا لآبل ساهم في حل المشكلة علنيا، عبر اكتشاف مؤسسة التحقيقات للرمز السري لوحدها أو ربما عبر تعاون خفي بين المؤسسة والشركة بشأن هذه المشكلة. في كل حال، ما جرى يشير الى امكانية حدوث مواجهة كبيرة في كل يوم بين دولة وشركة تعمل داخلها. الحرية أهم من الأمن إذ سلب الأولى يفقد الحياة لذتها. فيما يخص النفط ومع اعتقادنا بأن السوق تحدد الأسعار، هنالك مصالح دولية تؤثر خاصة على العرض وتحمل في طياتها سياسات عامة لها رؤية مستقبلية كبرى. مثلا كان من الممكن رفع سعر برميل النفط لو قبلت منظمة "الأوبيك" بتخفيض الانتاج الذي يوازي حوالي 30 مليون برميل في اليوم. لماذا لم تقبل بذلك؟ لأن ابقاء السعر منخفضا يقتل عمليا انتاج النفط الصخري الأمريكي الذي تبلغ تكلفة إنتاجه 60 دولار، وهذا ما حصل اذ توقف عمليا الانتاج الصخري. هذا يدخل في إطار الحرب الاقتصادية والمصالح الآنية والمستقبلية في نفس الوقت. ما هي مصلحة الولايات المتحدة في سوق النفط؟ هنالك صراع بين المستهلكين وقطاع الأعمال من جهة الذين يفضلون السعر المنخفض في حدود 40 دولارا والقطاع العام من جهة أخرى الذي يفضل سعرا أعلى لتعزيز الانتاج الصخري وعدم العودة الى التبذير الاستهلاكي الذي يحصل كلما انخفض سعر النفط. تكمن مصلحة أمريكا أيضا في تأمين استقلالية الطاقة وهذا لن يكون ممكنا اذا لم يتعزز الانتاج الصخري كما الطاقات البديلة. ما هي مصلحة الدول المصدرة للنفط وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي؟ على المدى القصير حكما السعر المرتفع لتمويل الموازنات وبدأنا نرى تأثير الأسعار الحالية على كل شيء في الداخل. المصلحة على المدى البعيد تعتمد على تنويع الاقتصاد بشكل جدي وأساسي، وهذا لن يحصل عندما تكون أسعار النفط مرتفعة. هنالك إذن صراع بين مصالح الحاضر والمستقبل أي صراع على كيفية الاستفادة من الوقت لتعزيز الأوضاع الاقتصادية. من مزايا المرحلة الحالية، انها فرضت على الدول النفطية الاستثمار الجدي في الأفكار، وربما في المشاريع البديلة لتنويع الاقتصاد والصمود في وجه تقلبات أسواق المواد الأولية. عندما نتكلم عن النفط، نقصد أيضا أسواق السلع الغذائية والمعدنية التي لا تقل خطورة عن السوق النفطية تحديدا. لماذا أصبحت الحروب الاقتصادية اليوم أخطر ومكلفة أكثر؟ زيادة فعالية قطاع الاتصالات ألغت عمليا حدود الدول، فيمكن للمعلومات وفي ثوان قليلة أن تنتقل من دولة الى أخرى دون أي حاجز أو مانع. كما أن تواجد الشركات الكبيرة في دول وأسواق عدة يسمح لها بنقل المعلومات داخلها بسرعة بشأن ما يجري في دول أخرى وفي كافة القطاعات. هنالك حروب نقد تجري بين جميع العملات إذ لكل دولة مصلحة في اعتماد نظام صرف معين أو سعر صرف محدد. حروب العملات قديمة وتقوم بها المصارف المركزية دفاعا عن الأمن الاقتصادي ومصالح القطاع الخاص الوطني. تخفيض سعر صرف النقد يعزز التنافسية، اذا لم تقم الدول الأخرى بنفس الشيء. تقوم الشركات بالحروب الاقتصادية تعزيزا لأرباحها ولحصتها في الأسواق في النظام الاقتصادي العالمي المعولم. هل هنالك أي تضارب بين الحروب الاقتصادية والنظام الحر؟ أولا: يعتمد النظام الاقتصادي الحر على حرية تحرك العرض والطلب دون تدخل الدولة. في الحروب الاقتصادية، تتدخل الدول في العرض والطلب للتأثير على الأسعار كما على توافر سلعة أو خدمة في ظروف وأوقات معينة. ثانيا: في الدول الأكثر حرية في العالم، لا تترك الدولة قطاعها الخاص يعمل من دون رعاية أو حماية أو توجيه. في الولايات المتحدة مثلا، هنالك وزارات متخصصة تعنى بمصالح قطاعات معينة، كما هنالك "مجلس المستشارين الاقتصاديين" الذي يعنى بمصالح الاقتصاد ككل أي يصدر نصائح ودراسات توجه الى الرئيس للمناقشة والتنفيذ. تهدف الدراسات الى حماية المصالح الأمريكية وربما إلى إعطاء التوصيات بتحقيق حروب اقنصادية معينة كاغلاق أسواق أو وضع تعريفات أو غيرها من السياسات المعرقلة للحريات الاقتصادية. ثالثا: هنالك دور كبير في بعض الدول للمؤسسات الأمنية والعسكرية يتخطى المهمات التي وضعت أصلا لها. في الولايات المتحدة، البحوث التي يقوم بها الجيش مهمة جدا وتعلن من وقت لآخر ويستفيد منها القطاع الخاص. هذا يجعل من المؤسسات العسكرية والأمنية مؤسسات وطنية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، أي تتعدى الحدود الوظيفية التي وضعت من أجلها. مساهمة الجيش في التجدد والابتكار مهم جدا وقد نقلت اسرائيل التجربة الأمريكية إليها. رابعا: لا بد من التنويه بشكل خاص بالسياسات الصينية المتبعة بشكل مباشر ضد الهند كما عموما ضد الغرب. لا ترغب الصين بالمواجهة إنما ترغب بتسجيل تقدم واضح تجاه المنافسين حتى لا يغامروا بالحرب ضدها. وضع المنافسين في الزاوية الاقتصادية يجعلهم يفكرون مرتين أو أكثر قبل مواجهتها. خامسا: ما هي العقوبات الاقتصادية وإلى ماذا تهدف؟ حكما إلى تأخير التقدم الاقتصادي للدول المعاقبة ككوبا وايران وكوريا الشمالية وروسيا وغيرها. وضع عقوبات اقتصادية يؤخر تقدم الاقتصاد العالمي كما يؤخر بشكل مباشر الدول المعنية. العقوبات هي شكل من أشكال الحروب الاقتصادية المعتمدة دوليا. هنالك دول تتحمل العقوبات بسهولة وأخرى تعاني منها كثيرا، إذ هنا تكمن أهمية تقوية الاقتصاد لمواجهة كل الاحتمالات.