إذا سألك أحدهم: ماذا يعني مفهوم التسويق؟ فاعلم أنه ليس من المستغرب أن ترفع رأسك للأعلى وتعقد حاجبيك وتستغرق فترة من الزمن وأنت تفكر بالإجابة الصحيحة لهذا السؤال، فالتسويق وبرغم بساطته وسهولة العثور عليه في حياتنا اليومية إلا أنه يحتوي على العديد من المتغيرات التي تجعل عملية تحديده وحصره في إطار معين صعبة لغير المتخصصين، فالبعض يعتبر أن التسويق ما هو إلا مهارات البيع وفنونه، والبعض الآخر يظن أنه عبارة عن صناعة الإعلانات المرئية والمسموعة، وهناك أيضا من يعتبر أن التسويق عبارة عن إجراءات توصيل السلع والخدمات للمستهلكين بصورة صحيحة، أما الحقيقة فهي أن جميع الإجابات السابقة ما هي إلا جزء من جوانب التسويق وهو الذي يمكن تعريفه بالمعنى الشامل على أنه مجموعة الأنشطة والعمليات التي تؤدي إلى تحديد وإشباع احتياجات ورغبات المستهلكين للوصول إلى تحقيق أهداف الشركة من خلال إجراءات تتعلق بجميع جوانب العمل مثل تطوير المنتجات وتحديد طرق التوزيع وأفكار الإعلانات وغيرها الكثير، ومن ناحية أخرى فإنه يمكننا القول أيضا وبطريقة أكثر سهولة بأن التسويق هو العملية التي تنتقل من خلالها السلع والخدمات من أنها مفاهيم أو رغبات إلى جعلها حاجات أساسية للمستهلكين، بمعنى أنها عملية جذب الأشخاص المهتمين بخدمة أو منتج ما إلى معرفته وشرائه. تاريخيا فإن مفهوم التسويق برز وتطور بشكل ملفت في فترة الثورة الصناعية مع بدايات القرن الثامن عشر، حيث بدأت عمليات الشراء والتسويق للبضائع والحاجيات تصبح أكثر سهولة، وهو ما أدى إلى ظهور فائض من بعض المنتجات في الأسواق والتي باتت تضم بضائع وسلعا أكثر بكثير من حاجة المستهلكين، وهو ما دفع البائعين ومع ارتفاع شدة المنافسة إلى البحث عن طرق جديدة لعرض وترويج منتجاتهم، ومع مرور الوقت استمر هذا المفهوم بالنمو والتوسع حتى أخذ أشكالا ومفاهيم جديدة تأثرت بالكثير من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم وهو ما أوصلنا للرؤية الحديثة لمفهوم التسويق. هذا وقد كان للتطور التكنولوجي وزيادة الإقبال على العمل من خلال شبكات الإنترنت دور كبير في حدوث قفزة نوعية لعمليات التسويق من خلال ما بات يعرف بالتسويق الإلكتروني وهو الذي أصبح في وقتنا الحالي عاملا أساسيا لجذب العملاء والتفاعل معهم، وأهم ما يميز هذا النوع من التسويق هو سرعة وكثافة انتشاره مع قلة تكاليفه وقدرته على قراءة سلوك الأسواق المستهدفة، إضافة إلى إمكانية أدواته على توفير إحصائيات ومؤشرات تساعد على تقسيم السوق والوصول إلى فئات الجمهور المستهدفة، ولمعرفة دور وأهمية إستراتيجيات التسويق الإلكتروني ومدى فعاليتها وتأثيرها على الأسواق في السنوات الأخيرة ما علينا إلا متابعة النمو الكبير في أعداد مستخدمي الإنترنت والذين تجاوزوا الأربعة مليارات مستخدم في السنوات الأخيرة وهو ما يعادل 60% تقريبا من مجموع سكان العالم. وأخيرا وبرأيي الشخصي فإن التسويق وبرغم حداثته كعلم معترف به إلا أنه يعتبر الخطوة الأولى لأي عملية بيع أو إنتاج بل حتى أساس مهم لمعظم تصرفاتنا اليومية وهنا ومع مقولة فيليب كوتلر بروفيسور التسويق الدولي المعروف (يمكنك أن تتعلم التسويق في يوم، لكنك ستقضي حياتك كلها كي تتقنه) فإنني أستذكر إحدى أقدم حملات التسويق الموثقة تاريخيا في عالمنا العربي وهي التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير (الأغاني)، حول الشاعر العربي الأموي ولقبه (مسكين الدارمي) واسمه الحقيقي هو (ربيعة بن عامر التميمي)، وقصته الجميلة مع صديقه التاجر الكوفي الذي قدم إلى المدينة بقصد بيع المناديل والخُمُر بضم الخاء والميم (جمع خِمار) في أسواقها، وهو وبرغم براعته باعها كلها إلا السود منها بقيت ولم تُباع، وبحكم الصداقة شكا التاجر أمره للدارمي وطلب منه مساعدته، وقد كان الدارمي في ذلك الوقت قد ترك قول الشعر، ولكن ومع إلحاح صديقه التاجر عليه وافق الدارمي وقال: لا تهتم أنا سأساعدك لتبيعها كلها، ثم فكر مليا وأنشد قصيدته الشهيرة: (قُلْ للمليحةِ في الخِمَارِ الأسودِ... ماذا صَنَعتِ براهبٍ متعبِّدِ) حتى نهاية الأبيات، وما هي إلا أيام قليلة حتى شاعت القصيدة بين الناس وعندها يُقال إنه لم تبق ظريفة في المدينة إلا ابتاعت خمارا أسود، حتى نفد ما كان مع التاجر منها.