الدول المحايدة في الصراع الاقتصادي العالمي "مكاسب محتملة وإستراتيجية خليجية ذكية"

في ظل عالم يتسم بتزايد الاستقطاب بين القوى الاقتصادية الكبرى، ومع تزايد حدة النزاعات التجارية والجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، وبين الغرب وروسيا، تبرز فئة من الدول التي تبنت نهج الحياد الاستراتيجي كمراكز توازن دولي. هذا الحياد لم يعد موقفًا دبلوماسيًا فقط، بل تحوّل إلى أداة فاعلة لجني مكاسب اقتصادية واستراتيجية وفي هذا السياق يمكن أن تقدم دول مجلس التعاون الخليجي نموذجًا فريدًا لدول محايدة «فاعلة» تستفيد من موقعها الجغرافي، واحتياطاتها المالية، وقدراتها على إدارة التوازنات الدولية بكفاءة عالية. ولتصور أكثر شمولية لابد من فهم ملامح الصراع الاقتصادي العالمي التي بدأت من قبل وصول ترامب الى المكتب واشعال فتيل الأزمة، فالاقتصاد العالمي قبل بداية الحرب التجارية التي شنها ترامب يعاني من مجموعة من التحديات البنيوية، من أبرزها: تفكك سلاسل التوريد العالمية بعد أزمة جائحة كوفيد-19 وأصبحت بعيدة عن الاعتماد الأحادي. تسارع العقوبات الاقتصادية بين الغرب وروسيا. التنافس التكنولوجي والهيمنة الرقمية بين واشنطن وبكين. سباق عالمي نحو الموارد الطبيعية والطاقة والمعادن النادرة في هذا المناخ، تجد الدول المحايدة نفسها في موقع تفاوضي فريد، يسمح لها بالوصول إلى الأسواق من جميع الأطراف دون التورط في المواجهة المباشرة وتستطيع من خلال هذا الموقع جذب الاستثمارات من أطراف متنازعة تسعى إلى تخفيف المخاطر. تقديم نفسها كمركز صناعي وتجاري محايد. استقبال رأس المال الباحث عن استقرار مالي وقانوني وسط بيئة مضطربة عالميًا. حالة الحياد هذه التي تخطت كونها خيارا سياسيا تجعل من دول الخليج أداة لجذب الاستثمارات من الأطراف المتنافسة وبنفس الوقت قناة وصل بين القوى المتصارعة في مجالات مثل الطاقة، الغذاء، الوساطة التجارية والدبلوماسية. وهذه الحالة ستمكنها من الاستفادة من موقعها الجغرافي لتكون نقطة عبور إستراتيجية في سلاسل الإمداد الجديدة وتعزيز مكانتها كمزود طاقة آمن في وقت يعاني فيه الغرب من أزمة الطاقة بفعل العقوبات على روسيا. ومع استمرار احتدام هذا الصراع الاقتصادي العالمي، ستزداد قيمة الدول المحايدة التي تستطيع أن تقدم نفسها كـ “جسر» بين القوى الكبرى. دول الخليج، بما تملكه من موارد مالية، استقرار سياسي، ورؤية استراتيجية، مرشحة بقوة لتكون من أكبر المستفيدين من هذا الوضع العالمي المعقد. المستقبل يحمل فرصاً كبيرة، شريطة الاستمرار في تبني سياسات مرنة وذكية تراعي التغيرات المتسارعة في ميزان القوى. وشهد التاريخ الحديث عدة محطات مشابهة من الصراعات الاقتصادية بين قوى كبرى، وكانت للدول المحايدة آنذاك فرص كبيرة لجني مكاسب استراتيجية. من أبرز هذه التجارب: سويسرا أثناء الحربين العالميتين: التزمت سويسرا الحياد الصارم، مما مكنها من التحول إلى مركز مالي عالمي محايد، استقطب رؤوس الأموال من جميع الأطراف المتحاربة، وأسّس لهيمنة مصرفية دامت لعقود. فنلندا بعد الحرب الباردة: اتبعت فنلندا سياسة «الحياد الإيجابي» بعد الحرب العالمية الثانية، فحافظت على علاقات تجارية مع الغرب والاتحاد السوفيتي، ما ساعدها على بناء اقتصاد قوي ومتنوع، دون الاصطدام مع أي من المعسكرين. سنغافورة أثناء الحرب التجارية بين أمريكا والصين: استفادت سنغافورة من موقعها كمركز مالي وتجاري محايد في آسيا، فاحتفظت بعلاقات متوازنة مع الطرفين، واستقطبت الشركات الباحثة عن بدائل لخطوط الإنتاج أو المراكز الإقليمية. تلك التجارب أثبتت أن الحياد الذكي المقترن بكفاءة إدارية وبنية تحتية قوية يمكن أن يحوّل المخاطر إلى فرص نادرة الظهور. والفرص لا تطرق إلا الأبواب المستعدة.