ظل تنويع مصادر الدخل الشغل الشاغل للحكومات والمفكرين الاقتصاديين في الدول المنتجة للنفط وبالذات العربية الخليجية منها، ولتحقيق هذه الفكرة أعدت كل دولة خليجية رؤيتها للعام 2030 - أو لسنوات أخرى - بغية إعداد الخطط والبرامج والسياسات لتنويع مصادر دخلها بعيدا عن النفط، وهي فرصة كانت متاحة بصورة أكثر نجاعة وبدون ضغوط منذ عقد من الزمن، عندما كان النفط الخليجي السلعة الإستراتيجية الأهم في العالم، وإنفاق الحكومات مسيطرا عليه إلى حد كبير، والالتزامات الداخلية والخارجية ضمن الحدود التي يمكن التعامل معها. لكن انخفاض أسعار النفط في النصف الثاني من العام 2014، فاجأ الدول المنتجة ومنها الدول الخليجية مرتين، الأولى بتقديمها تفسيرات تقليدية وتاريخية لشرح أسباب هذا الانخفاض، واعتباره بالتالي مجرد حالة مؤقتة، والثانية عندما لم تتسق تلك التفسيرات مع استمرار هذا التراجع بوتيرة متسارعة، مما أوقع الدول المنتجة في مأزق معرفة الأسباب الحقيقية التي كانت صادمة كانتقال مركز القرار النفطي من الدول المنتجة التقليدية إلى دول أخرى صاعدة نفطيا، وتراجع هيمنة النفط الأحفوري لصالح النفط الصخري، والمنافسة داخل أوبك نفسها، وهشاشة تعافي الاقتصاد العالمي، وألاعيب السياسة الدولية، وهو ما غيَّرَ الكثير من المسلمات، ومنها التعايش مع حقيقة استمرار تراجع الإيرادات (بحسب رئيسة صندوق النقد خسرت الدول المصدرة للنفط في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أكثر من 340 مليار دولار، أي حوالي 20% من ناتجها المحلي لانخفاض أسعار النفط)، وزيادة عجز الموازنات (تقدر وكالة موديز قيمة العجز المتوقع لدول الخليج خلال العامين القادمين بنحو 270 مليار دولار، في حال استمرار أسعار النفط ضمن مستوياتها الحالية)، ومزيدا من الاتكاء على الاحتياطيات والصناديق السيادية. أمام هذا الواقع، بدأت معظم الدول الخليجية بالتعامل مع ظاهرة عجز الموازنات، وسط نصائح المؤسسات المالية كصندوق النقد بضرورة الإصلاح العميق والواسع للنمط الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي القائم، وتحذير مؤسسات التصنيف الدولية من تخفيض التصنيف السيادي للدول الخليجية، بعد تخفيض وكالة موديز التصنيف الائتماني لكل من السعودية والبحرين وسلطنة عمان، مع توقعات سلبية للتصنيفات الائتمانية طويلة الأجل للدول الخليجية الأخرى. هذه المعطيات دفعت بعض الدول الخليجية وعوضا عن الإسراع بتنويع مصادر الدخل، للبحث عن تنويع مصادر الاستدانة، فزاد استخدام مصطلحات الاقتراض بسندات دين وصكوك بالعملات المحلية أو بالدولار، من الأسواق المحلية أو الأسواق العالمية، ودخل مفهوم إعداد إستراتيجيات للدين العام اللغة الاقتصادية المتداولة. فالدول الخليجية بدت وإن بشكل متفاوت مشغولة بالكيفية التي تسمح لها بالحصول على الديون، حتى مع ارتفاع كلفها بسبب تخفيض تصنيفها السيادي، مع ما يعنيه ذلك من الدخول في دوامة المديونية (يتوقع صندوق النقد ارتفاع نسبة الدين العام إلى 45% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول سنة 2021)، والحلقة المفرغة من الاستدانة لمواجهة العجز في الموازنات، خصوصا إذا لم يتراجع هذا العجز أو تتوقف تلك المديونية كما هو الحال في دول أخرى، مما سيؤثر على معدلات النمو الاقتصادي، وحجم الإيرادات العامة التي سيخصص جزء مهم منها لسداد فوائد المديونية وأقساطها، ويعرض العملات الوطنية لضغوط مختلفة. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالدائنون الخارجيون يطالبون الجهات التي ستقوم بطرح السندات، وبالذات الصناديق السيادية برفع الغطاء عن بياناتها المالية لتكون علنية، استجابة لحقهم بالحصول على كل المعلومات والبيانات بشفافية طوال مدة السداد التي قد تصل إلى 10 سنوات، وهو الأمر الذي يعني كشف طريقة عمل تلك الصناديق واستثماراتها والعوائد منها، ما يشكل عقبة أمام الحصول على القروض المطلوبة. لذلك فالديون ليست حلا، بل لابد من حلول من داخل البيت الاقتصادي عبر الاستمرار بتغيير النمط الريعي، للحيلولة دون الانزلاق نحو فخ المديونية، إذ مهما كانت صعوبات التكيف مرهقة، والكلف مرتفعة، فإنها ستكون لصالح مستقبل البلاد وهي تطور قدراتها الذاتية لمواجهة التحديات.