دموعك غالية علينا يا «بوحمد»

قبل 20 عاما عندما كنت أعمل مراسلا محليا في وكالة الأنباء القطرية ومسؤولا عن تغطية ومتابعة أخبار وزارة الطاقة أتذكر جيدا ذاك اليوم الذي التقيت فيه للمرة الأولى بسعادة السيد عبدالله بن حمد العطية نائب رئيس الوزراء ووزير الطاقة، حينها، رجل النفط والغاز والمثقف العربي المتابع للشأن الإقليمي بدقة والملم بالمتغيرات في المشهدين السياسي والاقتصادي في مصر ولبنان، فكنت في حيرة من أمري كيف سيكون لقائي بهذا المسؤول الذي تقَلَّد منصب الوزارة بعد عمل وجهد طويلين، وتدرج في عدد من المناصب القيادية بأجهزة مختلفة بالدولة، فهو مسؤول لا يقبل المجاملة على حساب العمل، يمارس عمله بإتقان شديد، ولا يقبل طرح أي معلومة غير صحيحة مرتبطة بالنفط والغاز، فهل أستطيع الحوار مع إنسان لديه إيمان تام بأن تحقيق المعجزات لا يزال ممكنا، وكان هذا كله وهو لا يزال على رأس منصبه الحكومي، فكيف سيكون حديثه بعد خروجه من المنصب مع عدم ابتعاده عن متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية المحلية وغيرها من الأخبار الإقليمية والعالمية؟. وعندما أسترجع اللقاء الأول الذي جمعني بـ"بوحمد" وكيف كان ناصحا بضرورة زيادة المعرفة بقطاع الطاقة والنفط والغاز لأنه قطاع يحتاج إلماما بالمصطلحات الاقتصادية ومتابعة دائمة بالمتغيرات والأحداث السياسية المتلاحقة، عندها أدركت جيدا أننا أمام مسؤول يعرف جيدا ماذا يريد، ولا يجيد المجاملة على حساب جودة العمل، وأنك إذا أردت التقرب منه عليك أن تكون متابعا للأحداث، مُطلعا على التطورات الاقتصادية والسياسية. ومنذ اللقاء الأول ترك "بوحمد" انطباعا استمر ولم يتغير رغم كل هذه السنوات، ولم أتوقع أن ألتقيه بعد دخوله المستشفى وبداية رحلة علاج طويلة استمرت قرابة العام حتى الآن، بسبب مرضه وإجرائه عملية جراحية معقدة للغاية، ولكن كان يقيني بأن "بوحمد" مهما تسبب المرض في إبعاده عن المشهد الاجتماعي، يبقى حنين الحديث لأهل قطر باقيا في خاطره لإدراكة بأنهم يريدون الاطمئنان على صحته ومعرفة ما حدث له بعد توقف رئته عن العمل ودخوله المستشفى وأنه أصبح لا يستطيع التنفس إلا عبر أسطوانات الأكسجين الصناعي، وهو وضع لا يناسب رجلا مثل "بوحمد" الذي اعتاد على الاختلاط بالناس دون عقبات مثل أسطوانات الغاز التي أصبحت تلازمه طوال 24 ساعة. وبهدف التخلص من هذا لم يكن أمامه غير الإقدام على قرار صعب للغاية وإجراء عملية جراحية خطيرة لزراعة رئتين رغم مشقة هذه العملية وخطورتها لعدم وجود عدد كافٍ من الأطباء الذين يجيدون إجراء مثل هذا النوع من العمليات، إضافة إلى أن وجود الطبيب المناسب قد تصادفه عقبة الحصول على متبرع مناسب، فلم يكُن أمام "بوحمد" إلا تحَمُّل نتائج إجراء عملية معقدة للتخلص من قيود الحركة وبهدف مواصلة العطاء بعد مسيرة استمرت 40 عاما من العمل المتواصل . وبعدما وصل "بوحمد" العاصمة البريطانية بحثنا عن الطبيب المناسب بعد رفض الأطباء في فرنسا وأمريكا إجراء العملية دخل في معركة البحث عن متبرع في ظل وجود القوانين التي تمنع في أوروبا التبرع لغير الأوروبي، الأمر الذي اضطره إلى البحث عن رئتين من خارج أوروبا واستخدام تقنية حديثة تساهم في إيصال الرئتين صالحتين. وبعد الانتهاء من إجراء العملية ودخوله مرحلة الاستشفاء والعلاج الطبيعي، قررت التوجه إلى لندن للقاء "بوحمد" وإجراء حوار معه ليتحدث للمرة الأولى بعد ابتعاده عن الوطن قرابة العام وتعافيه من المرض، وهو ما ساهم في زيادة أهمية إجراء حوار مطول مع "بوحمد" لمعرفة رأيه حول العديد من القضايا الإقليمية والمحلية، وكيف كانت قصة مرضه، وكيف استطاع مواجهة آثار العملية والتعايش مع مرحلة ما بعد إجراء العملية؟. وبعد الوصول إلى لندن حاولت تجميع محاور اللقاء التي يمكن طرحها على "بوحمد"، في تمام الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الجمعة الموافق 8 / 3 / 2019 ذهبت لمقر إقامته في فندق الدورشستر، متسائلا: هل سيكون قادرا أو متابعا للأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة طوال فترة مرضه وابتعاده عن الوطن؟ وبمجرد دخوله قال لي: اسمح لي يا محمد، لا أستطيع السلام، الطبيب منعني من ذلك بسبب ضعف المناعة لديَّ، وواصل الحديث قائلا: كيف أستطيع التعايش مع هذا الأمر؟ الله حده يعلم ذلك. ورغم صعوبة مرحلة ما بعد العلاج التي بدأ "بوحمد" الدخول فيها، لا يزال عفويا في ردة فعله للأمور، لم يتغير، وصاحب ذاكرة حديدية قادرة على استرجاع الأحداث التاريخية بسرعة وشرح التطورات السياسية والاقتصادية برؤية خاصة وتحليل واقعي للمتغيرات التي تشهدها المنطقة، وبعد ساعتين ونصف الساعة من الحوار مع "بوحمد" شعرت بأنني أطلت وأن وضعه الصحي لا يحتمل كل ذلك الوقت وأن هناك موعدا مع الطبيب ينتطره، ورغم الوقت الطويل الذي قضيته في الحوار معه، إلا أن الحديث مع "بوحمد" يحتاج إلى أيام، فساعات اليوم الواحد لا تكفي أن تخرج من ذاكرته آراء حول أحداث حصلت في السابق ولِمَا يحدث الآن ومن شخص عاصرها ولا يزال. ورغم أننا عهدنا في شخصية "بوحمد" القوة وتحَمُّل التحدي، إلا أنني بمجرد طرح سؤالي الأول عليه: كيف وضعك الصحي؟ وماذا تقول لكل من زارك وسأل عنك؟ حتى شاهدت دموع "بوحمد" تنهمر ويحاول إيقافها، وقلت له: لماذا هذه الدموع؟ قال: "هل قطر" غمروني بحبهم وعلى رأسهم حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، وصاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. وقال: أتمنى أن يسامحوني إذا قصَّرت بعد عودتي للدوحة لعدم قدرتي على زيارتهم، لأن الطبيب منعني من الاختلاط بالناس، وهذا الأمر صعب للغاية ولا أعلم كيف أستطيع تنفيذ تعليمات الطبيب. آخر كلامه: قد تكون دموع "بوحمد" الغالية علينا لخصت حالة خاصة وكشفت مدى قدرة الإنسان على العطاء رغم الظروف المحطية به وأن الإنسان عندما يمتلك الإرادة وروح التحدي يستطيع إنجاز المعجزات، فبعد 40 عاما من العطاء قدَّمَ "بوحمد" خلالها الجهد من أجل الوطن في قطاعاته المختلفة ليصل إلى مرحلة التقاعد التي يرى أنها لم تَحن بعد وأن الإنسان لا يمنعه التقاعد من استمرار العطاء في مجالات شتى، فالوطن قادر على مواصلة المسيرة وتقديم المنجزات وتحقيق المعجزات.