لا يدرك كثيرون آلية حركة الأسعار والتغير الذي طرأ عليها مع قيام الحكومات بإلغاء الدعم المقدم لها، بعد سنوات طويلة من التدخل المباشر الذي أدى من بين أمور أخرى إلى عدم وجود قواعد سوقية تحكم تلك الحركة صعودا وهبوطا سوى القرارات الحكومية. لكن دور الحكومات تغير بفعل الانفتاح والعولمة والاقتصاد الرقمي وأدواته، والتي أسهمت بتدفق السلع والمنتجات والخدمات عبر الحدود، رافقها ارتفاع أولى في وتيرة العملية الاستهلاكية بأسرع من القدرة الإنتاجية للاقتصاد المحلي ضعيف النمو، وحكومات استحقت مديونياتها الكبيرة التي بدأت تلتهم جزءا كبيرا من إيراداتها القليلة، مما عجل بالتوقف عن دعم الأسعار كوسيلة لتقليل النفقات والوفاء بمستحقات الديون، وبالتالي تعويم علاقة المستهلكين بالسوق. الإشكالية هنا أن المستهلك غير مقتنع بالأسباب الخارجية التي تسوقها الحكومات لتبرير ارتفاع الأسعار ومنها أن معظم متطلبات الاستهلاك مستورد من الخارج، الأمر الذي يعرض الدول المستوردة لأمراض الخارج كالتضخم المستورد، والكلف المتغيرة التي ترتفع باستمرار بالنظر إلى ارتفاع أجور النقل والتخزين والتأمين وغيرها، وارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية التي يتم تمويل شراء المستوردات بها. وهو غير مقتنع أيضا بالإجراءات الداخلية لضبط فوضى الأسعار الناجمة عن التحول من نظام اقتصادي مغلق إلى نظام مفتوح على مصراعيه، لعدم إقرار الحكومات قوانين حماية المستهلك، وإصدارها تشريعات اقتصادية هزيلة في نصوصها وغاياتها، واستغلالها أي متغير محلي أو خارجي للدفع نحو مزيد من رفع الأسعار بفرض ضرائب جديدة دون منع التهرب الضريبي، وانعدام الحوافز لتشجيع الإنتاج المحلي، والضعف في مواجهة الاحتكار، وعدم ربط الأجور بغلاء المعيشة. لذلك فالمشكلة ليست ارتفاع الأسعار فهذا أمر طبيعي ويجب التعود عليه، بل بنتائج سياسات الدعم التي شوهت المنافسة في الاقتصاد، وسمحت بانتشار الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية، من خلال عن وزارات التموين التي أوكلت لها مهمة الاستيراد على حساب كل ما يمكن إنتاجه محليا، لأن هدف الحكومات حينها البحث عن السلع والمنتجات الخارجية رخيصة الكلفة في مواجهة المنتجات المحلية مرتفعة السعر، ما أدى عمليا إلى محاربة المنتجات المحلية، وتحجيم دور القطاع الخاص الذي يبيع بسعر أعلى مما تستورده وزارات التموين، التي تم التخلي عنها وكان يمكن إعادة برمجة دورها لتكون وزارات للأمن الاستهلاكي مثلا. المشكلة بالنماذج الاقتصادية السائدة وهي في معظمها نماذج صندوقية (نسبة لصندوق النقد الدولي)، استدعتها الإدارة السيئة للاقتصاد، لترتب على المواطن تحمل تكاليف شروطها تحت عنوان التصحيح الاقتصادي، حيث يعتبر إلغاء الدعم أبسطها، وهي تستدعي فرض المزيد من الضرائب، وتخفيض مستويات المعيشة، وتعوم أسعار صرف العملات المحلية بحجة زيادة الصادرات لدول نعلم أنها مستوردة لا مصدرة، ما أدى لانخفاض مستويات الدخول، وتراجع فرص العمل، وتزايد معدلات الفقر. وبذلك انتقل المستهلك من حقبة تسعير الحكومات للأسعار، إلى حقبة تسعير صندوق النقد الدولي لها لكن بأدوات ذكية حسب متطلبات المرحلة الاقتصادية، ما يفسر مرونتها للأعلى فقط، وهو ما يدفع بالأوضاع الاقتصادية نحو مزيد من الجمود والتراجع، ويعيد العملية الاقتصادية إلى مربعها الأول كما يشهد عليه الصدأ الذي يعلو حركة الأسواق المتوقفة من كثرة الركود، لتراجع وتيرة النشاط الاقتصادي حتى مع برامج التصحيح المستدامة.
