مَرّت بسنوات من المعاناة والمراجعة وتحولت إلى تجربة الظان أن تنفيذ المشاريع والمبادرات أمرٌ روتيني في المتناول، هو من لم يُجرب التنفيذ، فالتفكير والتخطيط شيء، وجعل الفكرة والخطة حقيقة ملموسة شيئا آخر، يتطلب خبرة ومهارة وعزيمة وإصرارا. والإصرار هو عنوان عريض يختزن بداخله الاعتداد والثقة بأن عدم تنفيذ الفكرة الواعدة من المحاولة الأولى لا يعني أنها فكرة سيئة بالضرورة، بل الأقرب أن ثمة حاجة لمحاولة أو حتى محاولات متكررة وصولاً للنجاح. وتكرار المحاولة لا يعني تكرار ذات الطريقة والأسلوب، فذاك أسلوب يسمى في علم النفس «عقدة الثبات»، بل يعني عدم اليأس، وضرورة شحذ الفكر والصدق مع الذات بالاستفادة من التجارب السابقة والسعي حثيثاً لتحسين الأداء. في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وقفت ومجموعة من الزملاء أمام مجسم للمدينة الحلم، بعد أن أعيدت هيكلته وتحديثه ليتواءم مع المستجدات، وبعد طرح الأسئلة تملكني إحساس أننا أمام تحدٍ ولسنا أمام مهمة مستحيلة. فاقتصادنا السعودي بحاجة للمدن الاقتصادية لكي ينمو نمواً منوعاً خارجاً عن شرنقة النفط، وتأثير مثل هذه المدن جوهري - إذا ما أحسن توظيفها - ولعل تجربة الصين مع «مناطقها الاقتصادية الخاصة» خير شاهد. لنتوقف قليلاً ونطرح السؤال القديم: لماذا بدأنا ننفذ المدن الاقتصادية بعد حقبة كان يكرر فيها بعض المسؤولين أن المملكة كلها منطقة حرة؟! نموذج الأعمال الذي تقوم عليه المدن الاقتصادية هو الانفتاح الاقتصادي القائم على جلب القيمة من مال وتقنية وخبراء وأسواق تصدير، فإذا كان هناك إصرار على الاقتصار على جلب «كونتينارات» تعبر من ميناء المدينة الاقتصادية، فستكون حصيلتنا محدودة بالفعل. فضلاً عن أنه يمكن الجدل انتفاء ما يبرر عدم فتح الأبواب والنوافذ أمام المستثمرين الأجانب للاستفادة من مقدرات المدينة الاقتصادية، وبالقطع فنحن متفقون أن الشرط هو عدم تجاوز قيمنا فهي الخط الأحمر. فإذا أخذنا هذا في الاعتبار نجد أن الشرط المسبق الأساس لنجاح المدينة هو قدرتها على استقطاب المستثمرين من دول الجوار وما يليها اتكاءً على المزايا النسبية المتعددة التي يمتلكها الاقتصاد السعودي ككل وتمتلكها المدينة الاقتصادية على وجه الخصوص، لكن لا بد لنا من وضع بوصلة على الطاولة أولاً لمعرفة الاتجاه الحالي والوجهة التي نريد أن نبحر بالمدينة إليها: هل نريد الاحلال محل الواردات؟ أم ترويج الصادرات؟ أم تقديم خدمات تعليمية وتدريبية وسياحية ولوجستية؟ أم كل ذلك وأكثر؟ فلكل نشاط نموذج عمل يولد تدفقات نقدية بسمات نمطية، ويتطلب سياسات وخطط ترويج واستقطاب. كما أننا إن عرفنا الاتجاه والجهة، سيصبح ممكناً استهداف شركات أجنبية بعينها، ومستثمرين في بلدانٍ محددة باعتبار أن الشركات المستهدفة هي التي ستمكن المدينة من توليد القيمة المضافة المستهدفة، وأن المستثمرين سيجلبون المال والأسواق. لعلنا بحاجة أن نأخذ خطوة للخلف ونتأمل أن المدن الاقتصادية ليست سوى وسيلة لتحقيق الأمن الاقتصادي القائم على تنويع مصادر توليد القيمة المضافة للاقتصاد ككل، وهذا لن يأتي بسهولة والسبب هو المنافسة الشرسة بين دول المنطقة لاستقطاب المستثمرين الأجانب من شركات وأصحاب رؤوس أموال، فإن أردنا أن نكون الأعلى تنافسية فلا مناص - بطبيعة الحال - من أن نقدم أفضل عرض، فمخاطرتنا محدودة ما دام أن الأصول ستحتضنها أرضنا وتغطيها سماؤنا. وما يجعل الأمر في المتناول أكثر من أي وقتٍ مضى أن فكرة المدن الاقتصادية في المملكة مَرّت بسنوات من المعاناة والمراجعة، تحولت إلى تجربة، انعكست على التوقعات، وعلى أن المستثمرين لن يأتوا إلا لأفضل العروض، وأن على مدننا الاقتصادية أن تنافس لكي تستقطب المستثمرين، وأن ذلك يتطلب جهدا عالميا، وليس مجرد موقع على الانترنت والتناوب على حضور مؤتمرات! لكن لا بد لهذه المدن من ممكنات، فمثلاً كيف لمدينة الملك عبدالله أن تحقق اختراقاً وشبكتها اللوجستية ناقصة؟! هذه المدينة بُنيت من الأساس لتستفيد من موقع المملكة المميز على البحر الأحمر والخليج العربي، وبأنها - أي المدينة - ستساهم في توظيف هذا الموقع توظيفاً يوفر 11 يوما من الإبحار لتصل السفن للخليج العربي. وكان ذلك سيتحقق بإكمال الجسر البري الذي يربط الخليج العربي بالبحر الأحمر عبر سكة حديد، لتفرع البضائع في ميناء المدينة الاقتصادية على البحر الأحمر، لتنقلها السكة الحديد إلى داخل المملكة، وإلى ميناء الملك عبدالعزيز بالدمام، ومن ثمة إلى بقية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. إن لم نفعل ذلك، فسيسقط أهم عناصر «مقترح القيمة» الذي يجعل مدينة الملك عبدالله قصة نجاح، وبذلك نكون نحن من قرر ألا تنجح وليست هي!.