درس ضريبي

تعتبر الضريبة الشغل الشاغل للحكومات في الدول المتقدمة تلخص المشكلة التي تمر بها اليابان والمتعلقة بالتوقيت المناسب لرفع نسبة ضريبة الاستهلاك (المبيعات) من 8% إلى 10%، والتي كان مقررا رفعها مع حلول العام 2015، الكيفية التي تتعاطى بها حكومات الدول المتقدمة مع الضرائب التي تخضع لسلسلة من الاختبارات للتأكد، ليس فقط من الحاجة إليها، وإنما توقيت العمل بها، فنذر وقوع أزمة مالية جديدة كتلك التي حدثت في العام 2008، والمخاوف من استمرار حالة الانكماش التي يعيشها الاقتصاد الياباني منذ ما يقارب العقدين من الزمن، من ضمن عوامل دفعت رئيس الوزراء الياباني لتأجيل تطبيق الرفع حتى أكتوبر 2019، رغم اعتقاد الحكومة اليابانية بأن العودة لمسار النمو الاقتصادي تتطلب رفع الضريبة لتقليص عجز الموازنة، ومواجهة المديونية، وتغطية تكاليف الضمان الاجتماعي المتزايدة نظرا لشيخوخة السكان. وفي الواقع تعتبر الضريبة الشغل الشاغل للحكومات في الدول المتقدمة، فيما هي في العالم العربي الأحب لقلب وعقل المسؤول دون تفكير في عواقبها، أو نتائجها، أو نسبتها، أو توظيفها، أو توقيتها، فهناك ضرائب على الضرائب، وضرائب تحت مسمى أخرى، وهي تفرض على الدخل، والاستهلاك، والسيارات، والمنازل، والتلفزيون، والراديو، والجامعات والنفايات، والدخان، وعلى مغادرة البلاد والعودة إليها، على الشركات كبيرها وصغيرها، على الاتصالات الهاتفية الأرضية والخلوية، على الأماكن السياحية، على وجبات الطعام، باختصار على كل شيء، ومع ذلك لا بأس، فهذا طبيعي، لكن أحدا لا يعلم لماذا تفرض أصلا، ولا الأسباب الحقيقية لزيادة عبئها، فقد فرضت في بلد عربي منذ عقود ضريبة باسم فلس الريف (وهي تسمية مضللة) لتوفير المال لإيصال الكهرباء إلى هذا الريف، لكن وبعد تحقيق هذه المهمة بالفعل، ظل هذا الفلس يقتطع حتى اليوم كما لو أنها ضريبة منسية. بعد الحرب العالمية الثانية، ضاقت خيارات اليابانيين للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب الذي حل بهم وهي تتراوح بين تخفيض قيمة العملة، أو التقشف الذي يقود إلى الانكماش الاقتصادي، لكنهم اختاروا حلا ثالثا أكثر صعوبة وأضمن نتيجة ألا وهو تحسين الإنتاجية، والاستثمار في القطاع التكنولوجي لزيادة الإنتاج، والعمل بما عرف عالميا بإدارة الجودة الشاملة Total Quality Management (TQM)، أي أنهم وظفوا ضريبة الواجب والتضحية الوطنية، وبحثوا عن التحديات الإيجابية التي تؤدي إلى نتائج مستدامة من النمو والارتقاء بمستويات المعيشة، ولاختزال الفجوة مع الولايات المتحدة بالإنتاجية، والالتزام، وتوظيف المدخرات، وابتكار الأدوات والوسائل الخلاقة استثمارا، وإنتاجا، وجودة، وإدارة، وضريبة، رغم الافتقاد للموارد ومنها الطاقة، ليرتفع متوسط دخل الفرد الآن إلى ما يقارب 40 ألف دولار سنويا، من متوسط دخل كان يساوي 1 على 14 من متوسط دخل الفرد الأمريكي في عام 1950. لذلك يغدو إقرار الزيادة الإضافية على ضريبة الاستهلاك ولو بنسبة 2% أمرا بالغ الأهمية، ويحتاج إلى دقة في التوقيت، وبيئة حاضنة لتلافي نتائجه السلبية، ناهيك عن التفكير باتخاذ إجراءات تخفف من وقع هذه الزيادة على تراجع الاستهلاك كزيادة الرواتب للموظفين الحكوميين، وتعزيز قطاع التوظيف بإقامة مشاريع جديدة، ومطالبة رجال الأعمال بزيادة أجور العاملين في القطاع الخاص لتعزيز الوضع المالي للأسر، وتخفيض ضريبة الدخل على الشركات للسماح لها بزيادة الإنفاق على البحوث والاستثمارات الرأسمالية والأجور، فتعزيز الطلب المحلي الذي قاد اقتصاد اليابان، يجب أن يعود ثانية لقيادته. نميز تماما بين أهمية وضرورة وجود الضريبة، وهذا من البديهيات الاقتصادية، وبين كيفية استخدامها وتوظيفها من أجل تحقيق النتائج الاقتصادية والاجتماعية المتوخاة، فالضريبة ليست للحصول على الإيرادات وإشراك المكلفين بتحمل الأعباء فقط، بل هي وسيلة مهمة لإعادة توزيع الدخل، وللإنفاق على المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وهي ضريبة وطنية قوامها التضحية لخدمة الناس والأوطان الآن وفي المستقبل، وهذا هو مضمون الدرس الضريبي الياباني، أو هكذا يفضل أن نفهمه.