"ما بعد الإنسان" 3/3

الكتاب في مجمله يتناول علاقة الإنسان بالتكنولوجيا والتحولات المتسارعة التي تُحدثها هذه العلاقة في حياة هذا الإنسان، والأدوار التي أصبحت تتقلدها نيابة عنا، والتي كذلك تتوسع لدرجة أن الكثير من الأعمال والإجراءات وإنجاز المعاملات يُؤدى بشكل "آلي"، خالٍ من تدخل الإنسان، وما لهذه التحولات من انعكاسات على الخصائص والأخلاق والمشاعر والتفكير والذاكرة والصحة ومتوسط العمر، باعتبار أنها علاقة غير طبيعية ولم نألفها من قبل، كونها تحدث بين "العضوي وغير العضوي، المولود والمصنع، اللحم والمعدن، الدوائر الإلكترونية والنظم العصبية العضوية...". ولأنها تحولت إلى علاقة بلغت "درجات غير مسبوقة من الحميمية والتطفل". فيما تتواصل التجارب والأبحاث العلمية التي تجرى على كل ما لا يخطر على بالنا قبل سنوات قليلة دون تحفظ أو قلق. فما هي تأثيرات "حقيقة أن الأجهزة التكنولوجية لم يعد ينظر إليها باعتبارها جنسا أو عنصرا أو كائنا، بل أصبحت محايدة كأشكال من الخلط والتهجين والربط البيئي وتحول العبور الجنسي إلى أصناف شائعة لما بعد الإنسان؟". في توضيح أكثر تبسيطا وأدعى لفهم القارئ العادي لنظرية "ما بعد الإنسان"، يشرح "بريدوتي"، أن "ما بعد الإنسان لا يعني حقا نهاية الإنسانية، إنه يشير بدلا من ذلك إلى مفهوم معين للإنسان..."، المشاعر والأخلاق وكل الخصائص التي تعبر عن إنسانية الإنسان، مضيفا أن "مأزق ما بعد الإنسان يتضمن أشكالا محددة من الممارسات اللاإنسانية وغير الإنسانية التي تتطلب أطرا جديدة للتحليل وقيما معيارية جديدة...". في الخلاصة الشيقة التي لخصت فكرة الكتاب ومحاوره، يعرض الكاتب لـ"أربعة مشاهد" أخرى تشير إلى "أهوال" عصر التكنولوجيا تتمثل في "الإنسانية الشاملة المرتبطة إلكترونيا والتي تولد التعصب والعنف الناجم عن كراهية الأجانب - تكاثر النباتات والحيوانات والخضراوات المعدلة وراثيا إلى جانب فيروسات الكمبيوتر وغيرها - المركبات المسلحة والطائرات التي لا يسيرها الإنسان بطرق جديدة للموت - يعاد إنشاء الإنسانية باعتبارها فئة سلبية... تفكك بسبب الأوبئة الجديدة والقديمة في حروب جديدة لا نهاية لها... ". فكيف سيواجه الإنسان كل تلك التهديدات والمخاطر المتولدة من هذه التحولات التي تحدثها التكنولوجيا في حياتنا؟ يؤمن الكاتب بأن الفرصة متوفرة "للإنسانية لإعادة اختراع نفسها بشكل إيجابي، من خلال الإبداع، وتمكين العلاقات الأخلاقية، وليس سلبيا فقط، من خلال الضعف والخوف. إنها فرصة لتحديد فرص المقاومة والتمكين على نطاق كوكبي". فالإنسانية قادرة في هذا العصر "على الارتقاء إلى مستوى التحدي، شريطة أن نجعل ذلك مسعى جماعيا ومشروعا مشتركا". "إن النعجة دوللي حقيقية، نتيجة بحثنا العلمي، والقطارات بلا قائد التي تربط مراكز النقل العالمية بمراكز المدن الكبرى أصبحت مشهدا مألوفا، وأجهزتنا الإلكترونية المحمولة باليد قوية للغاية لدرجة أننا بالكاد يمكننا مواكبتها. فهل سنكون قادرين على اللحاق بأنفسنا ما بعد الإنسانية؟". وسواء آمنا بهذه النظريات أو شككنا فيها، فالنهضة العلمية بصناعاتها ومنتجاتها حقيقة، والفرصة عالية أمام المجتمعات المتقدمة للتعامل معها واستيعاب أجهزة وروبوتات الذكاء الاصطناعي، والتكيف مع الأدوار التي تتولاها، وصياغة علاقة متطورة معها تمكنهم من تحقيق المزيد من المنافع، ولكن ماذا عن واقعنا العربي الذي ما زال يغط في نوم عميق بعيدا عن "عالم ما بعد الإنسان".