ثلاثة مواقف متتابعة ذكرت في سورة الكهف في الحوار الشهير الجميل والتنموي الكبير بين سيدنا موسى وَعَبد الله الصالح الخضر، أحدها اطلق فيه الحكم المطلق القطعي السببي في الإشارة الى الزمن الماضي فجاء حل اللغز «وكان أبوهما صالحاً» كانت الإجابة المطلقة عن سبب إقامة الجدار الذي كان يريد ان ينقض والذي أراد سيدنا موسى ان يطلب عليه الأجر، أما عن خرق السفينة فكانت الإجابة القطعية المطلقة في زمن المستقبل أي في باب الغيب هي «وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا» وهنا وضوح القطعية في السبب المستقبلي وان قرب زمنه.
أما الثالثة فهي محور بحثي وفيها الاختلاف والتميز، وهي عندما قتل الخضر الغلام وهو عمل كبير بالمقارنة مع الحادثتين الأخريين ومع ذلك جاءت الإجابة عليه «فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا» وهنا استعملت كلمة الخشية أي الخوف النسبي غير المطلق ومرونة تحتمل الوقوع وعدمه لانها ليست قطعية فلم يجزم سيدنا الخضر بأن الغلام سيرهق والديه طغياناً وكفرا، بل اكتفى بالخشية، واعتقادي هنا ان الحكم على الانسان يحتمل التغيير وان السلوك البشري وان كان يتجه في مسار واضح خيراً أو شراً الا انه قد يتحول في مرحلة ما الى عكس الاتجاه، وهنا يتجلى مفهوم التخيير والحريّة في اتخاذ القرار وأن الأحكام الغيبية يمكن ان تتغير اذا تعلق الأمر بالانسان.
عليه فلا يمكن ان يدعي احد ان قدره ان يكون فقيراً او عاجزاً او مدمنا او غير ذلك، فالله يسبب الأسباب وعلى الانسان الاجتهاد في الأخذ بها وهنا تظهر النسبية العجيبة في دورة حياة الكون، فكل شخص يعمل بمقدار مختلف عن الاخر وعليه تخرج النتائج في ذات الاختلاف، اما ما يحدث من حتميات لا اجتهاد فيها فإن الخير مستور في قشورها، فبالعودة الى الغلام فقد كان بالوصف القرآني له غلام صغير لم يصل سن التكليف وبالتالي لم يكن عليه حساب بقول النص «نفساً زكية» أي طاهرة فيدخل الجنة بلا حساب.
القدر حد والعمل حد والواقع حد والاجتهاد حد، ومع كل تلك الحدود تبقى الإرادة سيدة الموقف، فلا تدع شيئا يؤثر على تلك الإرادة الحرة، وإلى أن نلتقي هذه تحية..