قصة تاريخية متكررة ومستمرة، قصة ذلك الصراع الدائم بين الطرف الواحد وجميع الأطراف الأخرى، التي تؤمن بأنها تمتلك حق التفكير والبحث عن طريقة تقول بها للعالم نحن هنا، نعم انها تلك الرواية التي نعيشها كل يوم في حياتنا اليومية وفي أعمالنا وأحلامنا، تلك الرواية التي تتلخص في سعي الدول والمجتمعات في الا تكون وللأبد تحت حكم جهة واحدة او طرف واحد، انها وبلا أدنى شك هي نفسها تلك الجدلية الإنسانية الدائمة بين التفرُّد والتعدُّدِية، نعم انها حالية حقيقية للانتفاض على واقع يفرض فيه الدولار هيمنته على التعاملات التجارية العالمية بين الدول والقارات، فيصول ويجول ليرفع أسعار السلع او يخفضها فيُدخِل العالم في موجة حادة من التضخم حينا او في موجة من الضغط والترقب أحيانا، فها هي اجتماعات الفيدرالي الأمريكي تحصد المشاهدات وتحقق المتابعات القياسية بانتظار قرارات لأسعار الفائدة على العملة الخضراء، تلك القرارات التي تبدأ تأثيراتها على البنوك الامريكية وتمتد لتحرِّك أسعار النفط والذهب وغيرها من المواد والسلع والخدمات، نعم يا سادة انها شريعة الحياة فالأقوى او الأكثر تأثيرا هو من يُحرِك خيوط اللعبة وهو أيضا من يضع قوانينها ويحسِم نتيجتها، حرب في الخفاء بين العملات والدول في محاولة جدِّية من دول ذات اقتصادات قوية وكبيرة في انهاء حالة من السيطرة التامة للدولار، تطورت في الفترة الأخيرة وخاصة بعد إعلان الرئيس الجنوب الأفريقي في 24 أغسطس 2023 خلال قمة "البريكس" الأخيرة والمنعقدة في بلاده وعلى أرضه عن قبول انضمام ست دول جديدة وهي السعودية، الإمارات، مصر، الأرجنتين، إثيوبيا وإيران، لما يُعرف بالبريكس وذلك اعتباراً من 1 يناير 2024، اعلان تلقفته الصحف والمؤسسات فاختلفوا بين متفائل ومتشائم وغير مبالي، وهنا يأتي السؤال المهم، فما هو البريكس؟ وكيف بدأ وما هو هي أسباب نشأته؟ وما هي أهم الدول التي يتشكل منها؟ وما هو الحجم الحقيقي لدولِه مُجتمِعة على مُختلف الاصعِدة؟ أولا وقبل كل شيء فإنه من المهم جدا معرفة ان "البريكس" هو تجمُّع اقتصادي تم اختيار اسمه بأخذ الأحرف الأولى باللغة الإنجليزية لأسماء الدول المشاركة فيه حتى الآن وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وهو الذي كان يُدعى «بريك» وذلك قبل انضمام جنوب أفريقيا إلى المجموعة عام 2010، ليضاف إلى المسمى الحرف S الخاص باسمها ويصبح اسم المجموعة "بريكس"، هذا وقد عُقدت أول قِمة رسمِية بين رؤساء الدول الأربع المؤسسة للبريك وهي (البرازيل وروسيا والهند والصين) في روسيا في يونيو من العام 2009 حيث تضمّنت الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية، واتفق رؤساء تلك الدول على مواصلة التنسيق في القضايا الاقتصادية العالمية، بما فيها التعاون في النظام العالمي المالي وحل قضايا إمدادات الغذاء، وتلاها عدة اجتماعات حتى العام 2011 حيث انعقدت قمة "بريكس" الأولى بمُشاركة الدول الخمس بعد انضمام جنوب أفريقيا وهي الخطوة الفعلية الأولى في توسُّع تلك المجموعة، اما عن بداية ظهور مصطلح او اسم "بريك" فقد ظهر لأول مرة عام 2001 حين صاغ "جيم أونيل" والذي كان كبيراً لخبراء الاقتصاد لدى "جولدمان ساكس"، اسم "بريك" لوصف «الأسواق الناشئة» في كل من البرازيل وروسيا والهند والصين، لتلفت لاحقا تلك الأسواق والدول الأنظار اليها وبقوة حيث ارتفعت حصة هذه الدول الأربع في الناتج العالمي وبسرعة من 16% إلى 22% وذلك بين عام 2000 إلى عام 2008، ليستمر بعدها أداء اقتصاداتها القوي عبر نتائج وأرقام كانت أفضل من المتوسط العالمي أثناء فترة الركود والازمة المالية اللاحقة عام 2009 – 2010. حاليا وبالحديث عن حجم تلك الدول فإنه يُمكن تلخيصها بأن هذه الدول الخمس تقع في أربع قارات حيث تقع البرازيل في الأمريكتين، وروسيا تقع في أوروبا، أما الهند والصين ففي آسيا وجنوب أفريقيا في القارة السمراء "أفريقيا"، هذا وتُغطي الدول الأعضاء مساحة تزيد عن 39.7 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل 27.4٪ من اجمالي مساحة اليابسة في العالم، ويبلغ عدد سكانها ٣٫٢٥ حوالي مليار نسمة وهو ما يُمثِّل أكثر من ٤٠٪ من عدد سكان العالم والبالغ حوالي 8 مليارات نسمة، أما إذا جمعنا مجموع نواتج دول "بريكس" المحلية فإنها قد تصل لحوالي ٢٥٫٦٪ من الناتج المحلى الإجمالي العالمي للعام 2022 وذلك بنحو ٢٥٫٩ تريليون دولار، كما أنها تملك موارد طبيعية ضخمة وهو ما يُساعدها على ان تُحقِّق معدلات نمو مرتفعة في معظم الأحيان، لتصل حصة اقتصاد هذه الدول الخمس الى ما يُقارِب 29% من حجم الاقتصاد العالمي. واخيرا وليس آخرا فإنه وبرأيي الشخصي فإن وجود هذا التكتل المهم سيكون له تأثير مباشر على الكثير من التحالفات والتكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم، فلا ننسى ان مجرد فكرة وجود تحالف قوي بين الدولة الأكبر من حيث المساحة في العالم مع الدولة الأكبر من حيث عدد السكان بالإضافة للمُنتِج والمُصدِّر الأكبر للطاقة ناهيك عن باقي الثروات والموارد في باقي الدول قد يُحوِّل العالم الكبير الى سوق واسع وفرصة واعِدة تبحث عن التعاون مع هذه الدول مُجتمِعة والتي قد تصل لتكاملها الاقتصادي اسرع من المتوقع، وهو ما يجعل الدولار والذي يُمثِّل حتى نهاية مارس 2023 حوالي 58.36% من احتياطات النقد الاجنبي في العالم بالإضافة لكونه العملة الرئيسية للتجارة العالمية بين الدول أمام تحدي حقيقي لما قد يواجه من تحديات قادمة في الآتي من السنوات خاصة اذا بقيت هذه الدول على نفس المبادئ والعمل والاهداف، وهنا أستذكر مقولة "هنري فورد" الشهيرة والتي تقول "أن نكون معًا مجرد البداية، أما البقاء معًا فهو طريق التقدم والعمل نحو النجاح".