مما لا شك فيه أن التجارب والخبرات البشرية على مدى الأزمنة والعصور تصبح بعد تطبيقها ونجاحها حقا مشروعا لجميع الشعوب والدول والأنظمة السياسية والمؤسسات الأكاديمية، في الاستفادة من مضامينها وإخضاعها للتقييم والدراسة والإضافة عليها بما يرفع من فاعليتها ويطور من آليات عملها ومراحل تنفيذها وتكييفها بما يتناسب مع أوضاعها وظروفها السياسية والاقتصادية، فالإنجازات الإنسانية العلمية والمعرفية في شتى الحقول والمجالات والقطاعات تتلاقى وتتواصل وتتفاعل وتتطور وتنتقل عبر الحضارات والقارات، فرئيس الوزراء السنغافوري لي كوان يو وصانع نهضتها، يعترف بنفسه بأن نهضة وتقدم بلاده اعتمدت في الأساس على الاستفادة من أفكار وخبرات وتجارب تنتمي إلى هذا الفضاء العالمي، حيث يقول: (منذ 25 عامًا أحضر زملائي العالِم سيدني بريمير للقائي، وكان عالمًا متخصصًا في علم الميكروبات، وشرح لي أن دولة صغيرة كسنغافورة إذا كانت لديها عزيمة وتبنت تطوير هذا العلم فإنها ستصبح ذات شأن، لأن هذه العلوم أساسية للتقنية، فقلنا فلنحاول، وبدأنا بتأسيس المعهد العلمي للجينات البيولوجية واستقدمنا خبراء من بريطانيا والسويد واليابان ووسعنا عملنا معهم). وتابع لي كوان يو قائلًا: فـ(نحن نجتذب المهارات من جميع مناطق العالم ونستخدم علماء يتحدثون اللغة الإنجليزية، حيث إننا من خلال هؤلاء الأخصائيين المهرة وبفضل تعاونهم معنا حققنا أكبر استفادة. جدير بالذكر أن نبيِّن أن الذين يأتون إلينا ويلتحقون بدراسات إنسانية في بلادنا، فإن بعضهم لا يعود لبلاده لأنهم يحصلون على ما يريدون وهكذا ننمو بسرعة). وتعد سنغافورة اليوم بفضل هذا الانفتاح على التجارب والخبرات العالمية واحدة من أغنى دول العالم (في المرتبة الثانية عالميا). وقد اعتمدت التجربة البرازيلية في تطوير وتنمية اقتصادها على عدد من الركائز، من أهمها (بناء تكامل إقليمي مع دول الجوار والانفتاح على اقتصاد الدول الصاعدة كالهند والصين)، فمعظم اقتصاديات الدول الكبرى والنامية تستفيد اليوم من خبرات بعضها وتأخذ ما يناسبها من تجاربها الناجحة وتستقدم خبراء عالميين لإلقاء محاضرات وتنظيم ندوات متخصصة وتقديم أفكار تنويرية وإعداد خطط وبرامج تبتغي إصلاح وتحسين وتهيئة المناخ الاستثماري المحفز للقطاع الخاص وتعزيز الموارد وتطوير القطاعات الاقتصادية بشكل عام، بل إن الكثير من دول العالم المتقدمة والصاعدة تستقطب خبرات وكفاءات مشهودة وفي تخصصات متنوعة وتقدم لها الجنسية لضمان بقائها وولائها وإخلاصها في البحث والعمل والابتكار وإجراء التجارب وتقديم خلاصة أفكارها وخبراتها. وعلى دول الخليج التي تمكنت، خلال العقود القليلة الماضية، من تحقيق معدلات تنموية مرضية وإنشاء بنية تحتية جيدة وحققت حياة مزدهرة للمواطن الخليجي بفضل الطفرة التي شهدتها أسعار النفط، أن تنفتح على التجارب الاقتصادية التي حققت نجاحات كبيرة وتمكنت من بناء اقتصادات قوية وقدمت نفسها نماذج عالمية في هذا المجال واستخلاص الأسباب التي مكنتها من تبوء هذه المكانة والاستفادة منها في بناء نهضة اقتصادية شاملة قادرة على تجاوز الواقع الذي فرضه التراجع الحاد في أسعار الذهب الأسود.