من جديد تعود الدوحة لتلعب دورها في التجسير بين الدول المنتجة للنفط من خلال دعوتها لاجتماع هذه الدول للاتفاق على تجميد الإنتاج، وهي تدرك أن الاتفاق ليس بالأمر اليسير، فالصراع النفطي اليوم، وبدل أن يكون بين المنتجين والمستهلكين هو بين المنتجين أنفسهم، والخلاف عوض وقوعه بين أوبك وغيرها من الدول المنتجة الأخرى، هو داخل أوبك نفسها، وفيما تبذر الدول المنتجة وقتها في معارك على حصص سوقية تتآكل، يستثمر المستهلكون وقتهم بإصلاح وتطوير وتغيير معادلات استهلاكهم على أكثر من مستوى، فهم ينتجون مزيدا من النفط، سواء كان أحفوريا أو صخريا أو رمليا من تحت الجبال أو من قاع البحار والمحيطات، ويحسنون تقنيات وسائل النقل لتستهلك أقل من النفط، ويطورون وسائل الاستخراج لتكون أكثر نجاعة وأقل كلفة، إن من حيث التكنولوجيا المستخدمة أو كلفة حفر الآبار، ويضعون شروطا صارمة على استهلاك النفط عامة، من خلال اتفاقيات المناخ وآخرها اتفاقية باريس. باختصار يوسع المستهلكون الفجوة بينهم وبين المنتجين الذين ما زال كثير منهم يفكر بمنطق زمن النفط الذي يأفل نجمه باعتراف أهله - وهم يمهدون للتخلي عنه لصالح بدائل أخرى- دون تمعن بالمخاطر التي يتعرضون لها، لذلك يدور هذا الجدال النفطي البيزنطي بين الدول المنتجة، فالعصر الحجري والعصر الجليدي انتهيا دون أن ينفد الحجر أو يتلاشى الجليد، وعصر النفط سينتهي دون انتهاء وجود النفط، مما يحتم التفكير العملي لاستغلال هذه الثروة الناضبة، أي بالمصلحة الاقتصادية، بدل السعي لتحقيق أهداف سياسية متغيرة لتوظيفها داخليا. والمشكلة أن الأزمة السعرية/ النفطية الجديدة لا تشبه الأزمات الكبرى السابقة للقياس عليها، فأسباب كل واحدة منها كانت واضحة ومحددة، ففي العام 1973، أوقف العرب إمدادات النفط، وكان ذلك إيذانا بتدشين عصر الاستخدام السياسي له، وفي عام 1979-1980، قامت ثورة إيران والحرب العراقية الإيرانية، وكان ذلك بداية عسكرة النفط سلعة ومناطق إنتاج، وفي العام 1986، كان انخفاض الأسعار تمهيدا لاستخدام النفط كسلاح في الحرب الباردة، وما أسفر عنه من انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي العام 2003، كانت الأزمة النفطية تعبيرا عن وضع صاحبة البترودولار يدها على مناطق إنتاجه على ضفاف الخليج العربي من خلال احتلال منابع النفط في العراق، وفي العام 2008 – 2009، كانت الأزمة صدى للتأثير الداخلي الأمريكي السلبي على أسعار النفط عقب انفجار الفقاعة العقارية، والأزمة المالية العالمية التي أعقبتها. أما الأزمة الحالية المستمرة منذ منتصف 2014 حتى الآن، فهي تعبير عن تغير الاتجاه لتكون أزمة المنتجين، وهذا تطور في غاية الخطورة. تدرك الدول التي ستجتمع في الدوحة أن الولايات المتحدة المستهلك النفطي الأول في العالم وبما يساوي خُمس الإنتاج العالمي اليومي، لم تعد تظهر اهتماما باجتماعات أوبك وغيرها، فمنذ قطع النفط عنها وهي تتحسب لأي تغير مفاجئ في الإمدادات من خلال تجهيزها لمخزون نفطي يقارب 700 مليون برميل، وبالتحول نحو الطاقة النظيفة، وتطوير عمليات البحث والاستخراج، لتتراجع مستورداتها الخارجية مع ارتفاع إنتاجها منه إلى 9.6 مليون برميل يوميا، بل ودخولها السوق العالمية مصدرة للنفط والغاز بعد رفعها الحظر عن التصدير، وفوق ذلك حيازتها احتياطيات نفطية هائلة في القطب الشمالي وتحت جبال روكي وغيرها، ما يعني أن الولايات المتحدة اليوم غيرها بالأمس، وهو ما دفعها للاستغناء عن مبدأ كارتر حول أمن الخليج، وانسحابها نحو شرق آسيا والمحيط الهادئ. وبالمقارنة مع الدول المنتجة التي تعاني اليوم من بطالة، يرى بعض الخبراء أنها الأعلى عالميا بين الشباب، ومن تراجع قدراتها الاقتصادية العامة والخاصة، ومن انخفاض إيراداتها، وتراكم الديون عليها، وعجز موازناتها، واضطرارها هي نفسها لرفع أسعار المشتقات النفطية في داخلها، فيما ينعم المستهلكون الخارجيون بانخفاض تلك الأسعار يوميا، وانخراطها في مشاكل محلية أو إقليمية أو دولية مكلفة وغير مضمونة النتائج، فإن الولايات المتحدة تتعافى من أزمتها المالية، حتى أن قطاعها الخاص أوجد 14.4 مليون وظيفة خلال السنوات الست الماضية، ليتراوح معدل البطالة فيها عند مستوى 5% فقط. لذلك فاجتماع الدوحة فيه مصلحة للمنتجين قبل غيرهم، فتخمة المعروض النفطي (1.9 مليون برميل) يمكن تقاسم تخفيضه بين الدول المنتجة، وبغير ذلك فوضع الشروط المسبقة للموافقة على قرار التجميد، يصب مباشرة في مصلحة المستهلكين الأغنياء، دولا وحكومات ومواطنين، على حساب الدول المنتجة وحكوماتها ومواطنيها.