تواجه دول الخليج العربية تحديات مالية كبرى نتيجة انهيار أسعار النفط وغياب أي أفق جدي للارتفاع القريب. بدأ التفكير العلمي حول البدائل، ليس فقط في هوية السلع والخدمات، وإنما في خلق وتطوير ذهنية جديدة تسمح للإنتاجية بالارتفاع وللسكان الأصليين بالنزول أكثر إلى سوق العمل. لا يمكن الانتقال بسرعة وسهولة من واقع يعتمد على الإيرادات النفطية السهلة لتمويل الاقتصاد والمجتمع والدولة إلى آخر يرتكز على الإنتاج والإبداع وخلق الفرص المناسبة. الموضوع ليس ماليا وإنما ثقافي حضاري يأخذ تحقيقه سنوات من الجهد والعمل والتشريعات الجديدة. نقل المجتمع من ضفة إلى أخرى يحتاج إلى قيادات قائدة في كل الميادين والقطاعات وحتى الشركات. الأمثلة كثيرة وعديدة وتشير كلها إلى التحديات التي تنتظر دولنا الخليجية، فالطريق صعبة ومليئة بالحواجز لكنها حتما ممكنة. هنالك مثالان كبيران، هما كوريا الجنوبية وأيرلندا، حيث اعتمدتا على التكنولوجيا للنمو، اختراعا واستعمالا، في الاقتصاد والتعليم والإنتاج. انتقلت كوريا من دولة فقيرة إلى أخرى غنية خلال عقود قليلة من الزمن. فقط المقارنة مع الجارة الشمالية تشير إلى الفرق الهائل في السياسات المطبقة على شعب واحد مقسوم قسرا نتيجة الحرب الباردة. تستمر كوريا في تحقيق نمو مقبول عندما تعجز أرقى الدول عنه، منذ سنة 2012، تنمو كوريا بمعدل سنوي قدره 3% بفضل ارتفاع نسبة الادخار الداخلي إلى 35% من الناتج مقارنة بـ30% للاستثمارات. هذا يعني أن تمويل الاستثمارات يتم من الداخل، مما يخفض التكلفة ويسمح للشركات بتحقيق الأرباح التي تستثمر بدورها. يتبع هذا الواقع نتائج مهمة على صعيد ميزان الحساب الجاري، أي فائضا قدره 6% من الناتج مرتكزا على صادرات كبيرة (620 مليار دولار) ليس فقط في الكمية والقيمة وإنما أيضا في النوعية من الإلكترونيات إلى السيارات والهواتف وإلى كافة السلع التقنية. هنالك أيضا فائض مستمر في الموازنات نتيجة حسن الإدارة وارتفاع الإيرادات، بسبب ترشيد الإنفاق، بالرغم من وجود فساد معلن يجب القضاء عليه تبعا للرئيسة «بارك». أما الاحتياطي النقدي، فيبلغ حوالي 350 مليار دولار، أي تغطية 7 أشهر من الواردات وهذا جيد. نتائج مدهشة لدولة تفتقر إلى المواد الطبيعية وتقع في منطقة تشنج سياسي كبير معتمدة على العمل الجاد والتكنولوجيا المتقدمة. أما أيرلندا التي عانت الكثير من الأزمة المالية الدولية، ها هي تتعافى اليوم بقوة وسرعة لتعود إلى سابق مجدها. ارتكزت على التكنولوجيا للتطور في غياب الغنى المادي الطبيعي. بعد تدني النمو نتيجة أزمة 2008 وتعثر بعض مصارفها، ها هي تحقق في سنة 2014 نموا قدره 5.2% و6.3% في سنة 2015، ومتوقعا قدره 4.2% لهذه السنة. نسبة الادخار هي في حدود 20% من الناتج ونسبة الاستثمارات في حدود 17% منه، وهذا يسمح بتمويل الاستثمارات بتكلفة منخفضة. لم تنجح الدولة في تخفيض نسبة البطالة التي ما زالت مرتفعة في حدود 10%، لكن هذا ليس حالها وحدها وإنما مرض أوروبي كبير وعميق جاءت أزمة المهاجرين لتزيده حدة. لا تتعدى نسبة الدين العام 85% من الناتج، أي أعلى من المعدل المقبول أوروبيا وهو 60%، لكنه ليس كارثيا، إذا ما قورن بدول أخرى كاليابان ولبنان. ميزان الحساب الجاري فائض في حدود 3% من الناتج، مما يشير إلى استقرار الاقتصاد وتمتعه بالحيوية التصديرية المميزة. عدد السكان لا يصل إلى 5 ملايين مع ناتج فردي سنوي قدره 41 ألف دولار، إدارة الدولة فاعلة وتتمتع بالشفافية وبمقدار محدود من الفساد. هل يمكننا أن نصل خليجيا إلى هذه المستويات وما هي الشروط المطلوبة التي يجب العمل عليها ليس عندما ينتهي النفط والغاز وإنما بدءا من اليوم وبسرعة وقوة؟ أولا: لابد من الاستعانة بقدرات بشرية خارجية، من الأفضل أن تكون عربية كي تبقى الفائدة ضمن المنطقة. من الضروري وضع الأشخاص أصحاب الخبرة والكفاءة في مواجهة التحديات والتجهيزات والمعدات في الجامعات والمختبرات ومراكز البحوث. المطلوب أفكار جديدة تأتي من الحوار وتبادل المعلومات والخبرات. ليس المهم الوصول إلى نتائج إبداعية سريعة، إنما الأهم وضع طرق عملية وعلمية لمحاولة تحقيق الإبداع الذي يمكن أن يأخذ وقتا طويلا. هنالك شروط ثلاثة ضرورية للنجاح وهي الحاجة والفرصة والقدرة، وكلها متوافرة في الخليج. ثانيا: يجب تطوير إستراتيجية قابلة للتحقيق، ليس فقط من قبل الحكومات وإنما بالتعاون مع القطاع الخاص وجمعياته. المطلوب مشاركة الجامعات ومراكز البحوث لأننا اليوم عربيا نحتاج إلى الأفكار الجديدة الخلاقة الفريدة أكثر من أي شيء آخر. المطلوب خلق الإطار المناسب كي تنبع الأفكار الجديدة منه. ثالثا: الأفكار الجديدة هي كالأطفال، أي تختلف من واحدة إلى أخرى، والمخترعون هم كالأهل، تهمهم رعاية الأطفال كي يكبروا بسلام ويدخلوا الحياة بأفضل التحضيرات الممكنة لرفع فرص النجاح المادي والمعنوي. هنالك مصلحة للأهل في إنجاح أولادهم، وهذا طبيعي وضروري ويشير إلى وعي الأهل وفهمهم لتحديات الحياة. رابعا: هنالك ضرورة لإيجاد التشريعات والمؤسسات الحديثة المناسبة لحماية الملكية الفكرية. لن ينتج المخترعون أفكارهم في منطقة لا تحمي إنتاجهم، بل يفضلون الذهاب إلى الغرب تحديدا. يجب احترام الاختراعات والمخترعين، وبالتالي عمل ما يجب كي يضعوا ثقتهم في القوانين والمؤسسات المحلية والإقليمية. خامسا: الإبداع لا يأتي من لا شيء، بل من التحضيرات الضرورية له، حتى من تقاطع العلوم والمعلومات في ميادين مختلفة ربما بعيدة بعضها عن بعض. تمكن دراسة مبادئ الإبداع وممارسته وتدريسه. الإبداع أصبح علما ولم يعد هواية كما كان في الماضي. ليس كل جديد إبداعا، إنما هنالك شروط له تبدأ من الفوائد المادية والمعنوية إلى سهولة الاستعمال والصيانة والتقييم والتسويق وغيرها. لابد من أخذ مثال ثالث مهم نابع من التجربة الإسرائيلية في الإبداع التي تدرست على اليد الأمريكية. من العوامل المشتركة في الحالتين، الاتكال على البحوث الآتية من الجيش الذي لا يلعب دورا أمنيا ودفاعيا وهجوميا فقط وإنما دور أكاديمي أساسي. الإنترنت مثلا نبعت من الجيش الأمريكي الذي وجدها لوصل فرقه العسكرية عبر العالم. الجيش الأمريكي خلاق اليوم في تطوير تكنولوجيا الطيران والحواسب وغيرها. نفتقد إلى هذه الميزات في عالمنا العربي ولابد من الاستفادة من قدرات العسكر، ليس فقط في مهمته الأصلية وإنما في كل شيء. هذا يسمح أيضا بتعميق العلاقات بين المجتمعين المدني والعسكري للمصلحة المشتركة. ليس من الضروري خلق إبداعات كبيرة، وإنما عدد من الاكتشافات الصغيرة. ليس هنالك «نوكيا» فنلندية عملاقة في إسرائيل، وإنما مجموعة من الاختراعات الصغيرة التي تعكس القدرة المادية والرغبة في الاستقرار الذي يتحقق من التنويع الإنتاجي. لذا نما الاقتصاد 2.6% في 2014 و2.3% في 2015 مع ميزان حساب جارٍ فائض، واحتياطي نقدي في حدود 90 مليار دولار. هنالك تحديان أساسيان لإسرائيل، هما استمرار رفع الإنتاجية وتحسين الأوضاع الاجتماعية للجميع. أخيرا، رفعا للإنتاجية، لابد من أن يركز أي باحث جهده على مشروع ابتكاري معين ولا يحاول توزيع قدراته على مهمات عدة. المهم إعطاء الوقت الطويل للابتكار، إذ لا يمكن أن يقتصر على الساعات الرسمية للعمل (9 إلى 5). الأجيال الجديدة ترغب في العمل بحرية ودون التقيد بساعات محددة على المكتب. المطلوب تطوير قوانين العمل عربيا، ليس فقط من ناحية الدوام، وإنما من ناحية المحتوى والنوعية، رفعا للإنتاجية التي تبقى أساس التطور والتقدم.